تبدلت الكثير من استراتيجيات المواجهة، وعقليات الجنرالات التي تضع مخططات الحروب مع العرب، إلاّ أن مهندسي السياسات العربية مازالوا يتعاطون مع الأحداث بنفس فرضيات قوة المدفع والبندقية. الهزائم التي منيت بها الولاياتالمتحدة في اليابان، وفيتنام، والصومال، وفي عقر دارها في الحادي عشر من سبتمبر، ثم الآن في العراق، علّمت الأمريكان درساً كبيراً بأن تكنولوجيا الحرب لن تكون في يوم من الأيام ضماناً لكسب أية معركة تعتزم خوضها طالما الشعوب تراهن على إرادتها، وحقها المشروع في الدفاع عن سيادتها الوطنية.. لكن الحكومات العربية لم تستلهم معاني هذا الدرس لتعزز رهاناتها هذه، ولترسم مخططات أمنها القومي على أساسها. الإدارة الأمريكية - ومنذ أكثر من عامين، وبالتحديد بعد أن بدأت قواتها الغازية تتكبد الخسائر الجسيمة في العراق - تحولت إلى خيارات الحرب الثقافية التي تستهدف بالدرجة الأولى تفتيت الإرادات الوطنية للشعوب من خلال تأجيج النعرات المذهبية، والقومية، والمناطقية، والعنصرية - باعتبارها الرهان الذي تجاهلت معظم الأنظمة العربية التعاطي معه بإىجابية.. وفي العراق كانت المؤامرة أعظم بإطلاق المتاحف والمواقع الأثرية للنهب والتخريب كونها تمثل أحد عناصر وحدة الإنسان والأرض والتاريخ في هذا البلد، وكان أمل قوات الاحتلال طمس الهوية الحضارية وخلق جيل منقطع عن تراثه الثقافي. وطبقاً لهذه التحولات تنامت مظاهر الشتات العربي، وتبدلت قيم الوعي الثقافي نفسها، فلم يعد الفكر القومي يحتفظ بنفس مقوماته بعد أن تداخلت معه المسألة الدينية المذهبية وأضافت أسباباً أخرى للتفتيت.. كما لم تعد قيم الفكر الإسلامي على نفس الوفاق الفلسفي بعد أن تباينت الرؤى إزاء القوى الغازية بين مقاوم ومساوم رغم أن الفتوى في هذا واضحة وضوح عين الشمس - وهذه الحالة لم تترجم نفسها في العراق وحسب، بل حتى في موقف العالم الإسلامي من حرب الثلاثة والثلاثين يوماً بين الكيان الصهيوني وحزب الله في جنوبلبنان.. ولو تأملنا في التحالفات الحزبية التي نشأت في الدول ذات التعددية الحزبية لوقفنا على معطيات مثيرة للدهشة في الكيفية التي اجتمع عليها فكران أو أيديولوجيتان نقيضتان تماماً. إن تداعيات استراتيجية الحرب الثقافية التي تنفذها الولاياتالمتحدة مستمرة في التصعيد، والتلون بصيغ مختلفة، مثلما الحال مع بلادة العديد من الأنظمة السياسية العربية التي تقف عاجزة عن تقديم المبادرات لشعوبها التي تكفل بها قدراً مضموناً من الوعي بأهمية توحيد الصفوف الوطنية، وتبني التشريعات التي تردع بشدة وحزم كل من تسول له نفسه إشعال فتنة، أو تأجيج أزمات داخلية - فالحروب الثقافية لاتكلف أكثر من قلم وخبر أو مقال في منبر إعلامي لكنها على صغر أدوات صنعها كفيلة بأن تحرق بلداً كاملاً وتعيده إلى القرون الوسطى! بتقديري إن الظهور المفاجىء للثقافات الفرعية يسبب اختلالاً كبيراً في توازن الأمة العربية، حيث إن بعضها اتخذ من الفكر القومي موقفاً مناهضاً على نحو غير مسبوق، إلى الحد الذي يجعلنا نعتقد بأن ذلك الموقف يبحث عن مسوغ للقبول ب (الأعاجم) - أي غير العرب - للتوغل في الواقع العربي، وربما حتى المشاركة السياسية، في الوقت الذي كان العامل القومي أحد أهم عوامل تحرر أغلب البلدان العربية من الاستعمار، أو الأنظمة المستبدة ومنها اليمن التي حظيت ثورتها بدعم كامل من النظام القومي في مصر بزعامة جمال عبدالناصر. ولو عدنا قليلاً إلى الوراء لوجدنا أن الفكر القومي كان هو صمام الأمان الوحيد الذي أحال دون اشتعال فتن مذهبية، أو عنصرية في المجتمعات التي تبنته.. إلاّ أن تراجع مساحة القوميين في العالم العربي تسبب بقفز العديد من الحركات أو التيارات ذات المسميات الدينية إلى ساحة الأحداث لشغل الفراغ الموجود، وبالتالي نقل المواجهات إلى الساحة الداخلية بدلاً من ساحة العدو المشترك للأمة الذي يعيث اليوم فيها فساداً وطغياناً .. وألفت الانتباه إلى أنني لا أقصد حزباً بعينه لئلا يفسر البعض حديثي عن (البعث)، فالأخوة البعثيون - سامحهم الله - يتهمونني بالعمالة لأمريكا وإيران وغيرهما.. فالبعض لايستسيغ صراحتي!! إذن نحن حاجة ماسة إلى مطالعة تراثنا السياسي العربي مجدداً، واستلهام الدروس منه، والتعامل مع تطورات مراحل الصراع العربي بنفس مقتضياته، فالحرب ثقافية وحضارية ولايجدي معها نفعاً المدفع والصاروخ والطائرة وغيرها.. وهي أىضاً مقنعة بوجوه مختلفة: ديمقراطية، ومنظمات محلية، وأخرى دولية، وتكوينات ذات صفة دولية، ومنابر إعلامية، وأنشطة استخبارية وأدوات مختلفة موجهة لطمس الهوية وقتل إرادة المواجهة!