من المرتكزات الرئيسة التي استند عليها حكم آل حميد الدين قبل قيام الثورة المباركة هو تكريس الجهل والتخلف بين أوساط المجتمع تحت قناع زائف وبحجة مضللة مفادها تجنب المد الثقافي والتنويري القادم من وراء البحار، فخلال النصف قرن من حكم الإمام يحيى ثم ولي عهده وفيما كانت الجامعات تنتشر في أصقاع البلدان العربية كان التعليم في اليمن منزوياً في حلقات الفقهاء لتدريس قراءة وحفظ القرآن فقط عدا مدرستي الأيتام بصنعاء والأحمدية بتعز حتى أن الأخيرة تلك جاءت عواقبها مترجمة لحسابات الإمام أحمد حميد الدين ولمخاوفه التي كانت تراوده كلما فكر ببناء مدارس مماثلة في بقية المحافظات وتوسيع رقعة التعليم النظامي، ذلك أن طلبة المدرسة الأحمدية كان من بينهم شرارة الغضب والتمرد على حكم الطاغية ..في السطور التالية حكاية المدرسة الأحمدية بتعز: حسب الحاج الطاعن في السن الاستاذ أحمد صالح ثعبات وحسب مؤرخين كثر فقد افتتحت المدرسة الأحمدية أسفل مدينة تعز قبل نزول ولي العهد أحمد حميد الدين إلى تعز ولياً للعهد وقد سميت المدرسة ب «الأحمدية» نسبة إلى«أحمد» ولي العهد إلى تعز حوالي عقد من الزمن.. وهناك من يرى المدرسة يعود تاريخ بنائها إلى عهد الأتراك والتي بنيت على أنقاضها مدرسة الثورة الثانوية للبنات بتعز هي المدرسة النظامية الثانية والأخيرة في اليمن قبل الثورة ،أما المدرسة الأولى فقد كانت بصنعاء بمدرسة الأيتام وقد بنيت أواخر القرن التاسع عشر خلال الوجود التركي في اليمن وبعد رحيلهم تحول اسمها إلى دار الأيتام.. يرى البعض ممن عاشوا تلك الفترة بل وممن درسوا في الأحمدية ان من أهم أسباب الاسراع في بناء المدرسة كان لتدريس البدر نجل «أحمد» ولي العهد ويمضي البعض الآخر كالوالد ومهندس الاتصالات المتقاعد الحاج/سعيد مهيوب الجنيد في القول إن ضغوط الطبقة المستنيرة القريبة من ولي العهد قادته إلى بناء المدرسة لاسيما حسب الحاج سعيد مهيوب وان التحاق الطلاب كان يتم بسهولة وبالمجان.. يقول الحاج سعيد مهيوب الجنيد في هذا الشأن : الحق يقال أن غالبية أبناء القرى والمناطق المحيطة بتعز من صبر وشرعب و.. و... و.. كانوا لايبالون بإرسال أبنائهم للتعليم في المدرسة الأحمدية ووالدي أحدهم وأكثر الطلاب كانوا من الفئات المعيشية الدنيا ويضيف: كان والدي فقيراً يوم وجدت نفسي أتلقى العلاج في مستشفى الناصر أسفل المستشفى الجمهوري مكان ثانوية تعز ومن حولي ثلاثون مريضاً معظمهم لم يتجاوزوا العشر السنوات يومها أرسلونا جميعاً بعد تماثلنا للشفاء إلى الالتحاق بالمدرسة الأحمدية وكان معظمنا أيتاماً وفقراء. قوام المدرسة ويضيف سعيد مهيوب: التحقت في المدرسة الأحمدية وأنا في الثامنة من العمر وفيها من الطلاب حوالي «400» طالب وأقل منهم في الفترة المسائية وإجمالي عدد الفصول الإبتدائية والإعدادية والثانوية «12» فصلاً دراسياً وأتذكر عددنا في الصف الأول الإبتدائي تقريباً «42» طالباً فقط، أما المبنى برمته فيتكون من طابقين الأول للفصول الدراسية والإدارة والثاني لسكن الطلاب، وبعد قيام الثورة ببضع سنوات هدم المبنى وبني على أنقاضه مدرسة الثورة الثانوية للبنات.. واستطرد الوالد سعيد مهيوب: كان بمقدور الحكومة الابقاء على مبنى المدرسة الاحمدية كمعلم تاريخي أثري يدون مرحلة هامة من التاريخ اليمني ولعل زملائي ممن درسنا سوياً في تلك المدرسة يتذكرون جمال ذلك المبنى وعقوده الفخمة وتصميمه الهندسي الجميل.. ثم دلني الوالد سعيد مهيوب إلى المكان الذي سأجد فيه صورة مبنى مدرسة الأحمدية فتوجهت إلى بوفية الابي الملاصقة للمدرسة الأحمدية الثورة حالياً في شارع 26 سبتمبر ويعتقد أن من التقطها هي عدسة رائد الفوتوغراف في اليمن المرحوم أحمد عمر الذي تعود إليه معظم صور المباني القديمة والشهداء حال إعدامهم تلك المعروضة في متحف تعز. التغذية والزي المدرسي يتذكر الوالد سعيد مهيوب الجنيد جيداً مكونات الثلاث الوجبات الغذائية التي كانت تقدم لهم فيما كان يسمى «القسم الداخلي» الفاصوليا عادة في الصباح وفي العشاء كذلك أو الفول الذي ساء حاله في السنوات الخمس السابقة لقيام الثورة حيث كان مليئاً بالديدان.. رجح الطلاب والمهتمون يومها ان شحنة الفول جاءت فاسدة ونظراً لتدهور وضع الخزانة الملكية يومها لم يكن أمام الطلاب إلا تجرع ذلك الفول ال«مدود» كما نعته عمنا سعيد مهيوب وزاد : لكن وجبة الغداء كانت جيدة لاتخلو موائدنا من قطع اللحم البقري أما الدجاج والسمك فلم يكن موجوداً إطلاقاً. وينتقل المهندس سعيد مهيوب للحديث عن الزي المدرسي قائلاً : لم نكن مقيدين بارتداء زي موحد كان غالبيتنا يرتدي المقاطب والقمصان والبعض غير ذلك وقلة من كانوا يرتدون البنطال وكانوا ينعتون من قبل البعض ب«الصعاليك». أشهر طلبة الأحمدية سألت الحاج سعيد مهيوب الجنيد عما إذا كان قد تزاملت دراسته مع القاص والروائي اليمني الكبير المرحوم/زيد مطيع دماج الذي عنون اسم المدرسة لاحدى رواياته فاجاب : كنت أسبق زيداً في الدراسة ب«3» سنوات وكانت حالته وملبسه أفضل منا غير ان نبوغه وتميزه لم يكن ملموساً كان طالباً عادياً.. ولم يعلو صيته إلا خلال دراسته في القاهرة وخاصة بعد تخرجه. المنهج الدراسي والمسرح أما بالنسبة للمستوى التعليمي في المدرسة وكذا النشاط الثقافي فيؤكد المهندس/سعيد الجنيد أن المنهج المدرسي كان مصرياً وليس بمقدور الطالب المهمل الصعود والنجاح بسهولة وان اللغة الانجليزية كانت تدرس من الإعدادية.. ويزيد الجنيد قائلاً : لا أزال أتذكر ليالي الجد والسهر في حفظ قواعد وكلمات اللغة الانجليزية أنا وزميلي المهندس لطف العسولي وقد سهل ذلك علينا تعلم اللغة الألمانية بعد تخرجنا من المدرسة الأحمدية سنة 1957م وابتعاثنا بعد الثورة إلى ألمانيا الاتحادية بمنحة شركة سيمنس الألمانية للاتصالات. وعودة إلى المدرسة الاحمدية ننتقل من الحديث عن المناهج الدراسية إلى الأنشطة المدرسية والثقافية لننقل ماذكرته القاصة اليمنية المعروفة الاستاذة رمزية عباس الإرياني رئيسة اتحاد نساء اليمن بدأ الاهتمام بالمسرح المدرسي في اليمن عام 1918م عندما عاد بعض الطلاب اليمنيين من اسطنبول في أواخر الاحتلال التركي وكتبوا تمثيليات لطلاب المدارس ودربوهم على عرضها للناس إلا أنها لقيت معارضة شديدة من أولياء الأمور والحكام حينذاك فاجهضت التجربة قبل انتشارها. النعمان والمسرح وفي عام 1938م كتب الاستاذ أحمد محمد نعمان عندما كان مديراً للمدرسة الأحمدية في تعز قبل أن يعين مديراً للمعارف مسرحية فكاهية لطلاب المدرسة بعنوان «الأعمى» قام بدور الأعمى الأديب عبدالمجيد قاضي وهو في الثامنة من عمره وفي عام 1939م قامت المدرسة بعرض مسرحية «الشاعر الفرزدق» في العرضي بتعز أمام ولي العهد أحمد حميد الدين ونالت استحسانه ورضاه لمدحها الأئمة أبناء علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ولاعتقادهم أنهم من سلالته. نقد الأئمة قدمت المدارس مسرحيات متنوعة كتبها الكتاب والأدباء أمثال حسين المروني، حسين المقدمي، زيد عنان ، البراق وكانوا يستنبطون مسرحياتهم من سير الخلفاء الراشدين وأيضاً مسرحيات تنتقد الظلم وتظهر العدل وكلها انتقاد مبطن لما يمارسه الأئمة ضد الشعب اليمني وكانت تعرض أمام ولي العهد في المناسبات المختلفة.. وفي عام 1947م بدأ انتشار المسرح المدرسي ولم يعد مقتصراً على المدرسة الاحمدية في تعز بل انتشر ليشمل صنعاء والحديدة. كرباج المدير الفلسطيني وللإلمام بتاريخ المدرسة الأحمدية كان لابد من سؤال المهندس سعيد مهيوب الجنيد أحد طلابها عن المدراء الذين تعاقبوا على إدارتها فأجاب : ان لم تخن الذاكرة فالقاضي أحمد أبو طالب هو أول المدراء جاء بعده محمد الآنسي ثم القاضي علي عبدالولي المجاهد ثم عبدالقادر صوان ذلك الرجل ذو الشخصية القوية والشرسة نوعاً ما ولعل فترته كانت أطول الفترات إذ استمرت حوالي «8» سنوات وقد تخرجت من الثانوية في أيام «صوان» وبعد تخرج دفعتنا الثانوية في سنة 1957م تقلد إدارة المدرسة الاستاذ عبدالغني مبروك.. وظل حتى قيام ثورة «26» سبتمبر. تظاهرة طلبة المدرسة قبيل قيام الثورة وحتى انفجارها كان المهندس الوالد/سعيد مهيوب الجنيد قد تخرج من المدرسة الأحمدية والتحق للعمل في مبنى الاتصالات السلكية واللاسلكية بعد ان تدرب سنتين على يد الألمان الوافدين من شركة سيمنس لذا فإنه لم يشارك في التظاهرة الشهيرة لطلبة المدرسة الأحمدية لكنه علم بتفاصيلها وبرموزها ومنهم العقيد صالح عبدالله الصبار وكان العقيد الصبار قد تحدث في لقاء أجرته معه صحيفة «26» سبتمبر واقتطفنا منه هذه السطور التي تهمنا.. شعارات تنديد خرجنا من المدرسة الاحمدية مرددين نشيداً حماسياً فأفاقت «تعز» على ذلك الصدى المدوي قد يكون للقدر أسبابه في حرمان مدينة تعز الباسلة من ان تكون مكان انطلاق شرارة الثورة الأولى التي أدت إلى سقوط الحكم الإمامي البائد رغم الاستعدادات والتعبئة التي شهدتها المدينة، أما بالنسبة للمظاهرة التي شاركت فيها وأنا في الثالثة عشرة من العمر فقد كانت انعكاساً لرغبة الاستمرار في إرغام النظام على التجاوب لمطالب الشعب وتحسين وضع حياته بالإضافة إلى كون المظاهرة جاءت امتداداً للاحداث التي مرت بها مدينة صنعاء التي شهدت خروج تظاهرة سلمية للطلاب الذين جوبهوا بحملة قمع واضطهاد وممارسة للقوة قادت إلى سقوط قتيل من صفوف الطلبة الدارسين في مدرسة الأيتام وجرح الكثيرين منهم واعتقل الأكثر وهكذا فقد هيج ذلك الحدث مشاعرنا وألهب غضبنا وفي ليلة الاعتصام والتظاهرة أبدينا نحن الطلاب الأصغر سناً مؤازرتنا للطلبة الكبار في مايعزمون عليه في الصباح وبالفعل أغلقنا أبواب المدرسة في صبيحة يوم الاعتصام حيث كنا نسكن في الدور الأعلى من مبنى المدرسة ثم تجمعنا في الساحة نهتف بالاشعار والشعارات المنددة بالحكم الإمامي والاستعمار وشعارات الحرية والخلاص التي كنا نسمعها من راديو صوت العرب.. أما أبرز الطلاب الكبار الذين قادوا التظاهرة فأتذكر منهم اسماعيل الكبسي وعبدالله مرغم والبواب والخراشي وغيرهم. حصار المعتصمين ويواصل العقيد صالح الصبار الحديث عن عواقب تلك التظاهرة قائلاً :- كنا على يقين أن مطالبنا ستنفذ وان وضعنا المعيشي والغذائي في المدرسة سيتحسن لكن ماحصل خيب ظنوننا إذ قام جيش الإمام النظامي بمحاصرة المدرسة من جهة الشرق والجنوب لكن ومن حسن حظنا ان من بينهم من كان يساعدنا ويسمح لنا بالتسلل إلى الخارج لطلب المعونة لنا ولزملائنا المحاصرين ومنهم من كان يسرب إلينا معونة التجار والأهالي أما الجهة الشمالية للمدرسة فقد حاصرتها العناصر المخلصة للإمام.. ولانني كنت من الطلبة الصغار فقد كان بعض عساكر الإمام المحاصرين لنا من ناحية الشرق والجنوب كما أسلفنا يسمحون لي بالخروج سراً لجلب ماتيسر لي ولل زملاء غيري من الطلبة الصغار وأتذكر مدى خوف الأهالي وأصحاب الدكاكين من عيون الوشاة والعسكر الواشية بهم إذا مالبوا استجداءنا لطلب الخبز لنا ولازملائنا فكان التجار والأهالي في حال قدومنا يتركون أقراص الخبز أمام محلاتهم ومنازلهم ويشيرون لنا من بعيد بأماكنها ثم نقترب منها رويداً وبعيداً عن عيون الوشاة كي لانتورط ولانضر من ساعدونا.. وكذلك عانينا الأمرين في جلب الماء لنا ولزملائنا وأتذكر يومها كيف تركنا الخبز في ساحة المدرسة وعدنا إلى خارجها صوب السقائين الذين كانوا يحملون الماء على ظهورهم لبيعه للاهالي لاسيما وموقعهم أمام استديو أحمد عمر رحمه الله وأمسكنا بالأول والثاني من هؤلاء وعرضنا عليهم مساعدتنا خلال مدنا بالماء، لكننا لم نفلح في إقناع أحد منهم حتى تحول تكرار إلحاحنا ورفضهم إلى مشادة بيننا وبينهم حتى فضها المرحوم والمناضل أحمد عمر رحمه الله بدفعه قيمة «17» زفة ماء من جيبه. جسر جوي من الأهالي ومع مرور الأيام وطول حصار المدرسة بدأ الأهالي المجاورون للمدرسة يقذفون إلينا عبر الجو أكياس الطعام والبسكويت وعندما أرسل الإمام إلينا مفاوضاً وجد ان لافائدة وخاصة بعد مؤازرة طلاب مدرسة الأيتام بصنعاء باعتصام مماثل احتجاجاً على محاصرتنا رضخ الإمام لمطالبنا.