خلال ممارستي لعملي كطبيب باطني، أتعامل عادة مع البالغين من الرجال والنساء، وقليلاً مع الأطفال في سن الدراسة من ست سنوات حتى مرحلة المراهقة، ومن النادر جداً أن أتعامل مع الأطفال الأصغر سناً، ولا المواليد إلا من يحضرون مع أمهاتهم، وتكون معاينتهم أمراً جانبياً من مشاكل بسيطة، تقوم على هامش الهدف الأساسي من المعاينة للأم نفسها. وكل من هذه الفئات العمرية تحتاج إلى وسائلها المناسبة في أساليب التعامل وطرق التواصل الهادفة إلى اكتساب ثقة المريض، وبناء علاقة وطيدة معه تصبح في حد ذاتها علاقة شفائية بجانب الأدوية أو بعيداً عنها. وأجد نفسي دائماً مرتاحة وهادئة وواثقة ومطمئنة في التعامل مع المسنين فوق عمر الستين عاماً، وخاصة النساء منهن، وعادة ما تنشأ بيني وبينهن علاقة وطيدة منذ أول لقاء. إن مجرد ظهور مريض أو مريضة مسنة على باب مكتبي، محاط كالعادة بالمرافقين، يدفعني فوراً إلى التوجه إليها أو إليه على الفور مرحباً ومسلماً، وعادة ما يكون الترحيب حاراً وطبيعياً، ويتم السلام بالأيدي على الطريقة اليمنية بتبادل القبلات عدة مرات على ظاهري الكفين، وبالنسبة لمن قد ترددت علي عدة مرات، فإن السلام يكون أكثر حميمية، وقد يصبح عناقاً بالأحضان مع ترديد كلمات السؤال عن الحال من الجانبين. إنني أعتبر أي مريض مسن، وبالأحرى أية مريضة مسنة، ضيفاً شرفياً فوق العادة لي، وأقدم له ولها من مشاعري الصادقة ومن المودة والاحتفاء ما يخترق الحجب ويصل مباشرة إلى القلوب. وبعض أبناء وبنات مريضاتي المسنات يبدون دهشتهم كثيراً عن مدى توطد العلاقة بيني وبينهن، فيقول بعضهم: قد لنا كام مدة نشتي نعاينها وهي تعبانة.. ونقول لها با نوديها هنا.. أو هناك.. وفي الآخر قالت لنا.. إذا كان ولابد من المعاينة ودوني عند “فلان” وكأنك يا دكتور قد أصبحت سيد والا ولي. ولا أتذكر خلال عملي لسنوات طويلة أنني قد اختلفت مع مريضة مسنة، أو أن سوء تفاهم أو امتعاض، قد نشأ بيني وبين إحداهن، فعلاقاتنا تتسم دائماً بالمودة والحميمة والحب العميق والاحترام من الجانبين. وفي بعض مناطقنا الوسطى والجنوبية يطلق الأبناء على أمهاتهم أو جداتهم كلمة “العجوز” وهو استعمال عربي قديم، ولا يحمل في طياته أي دليل على التقليل من القيمة أو الاحترام، وعلى رغم معرفتي بذلك، فإنني لا أستطيع عادة السكوت عندما يقول لي رجل أو امرأة:”جبنا لك العجوز تعاينها اليوم يا دكتور. أجد نفسي مرغماً على الدفاع بلا مبرر ولا ضرورة وأقول: هؤلاء هم الخير والبركة، ولولاهم لما كان للحياة قيمة ولا معنى، ولا أعرف ما يعتمل في نفوس الأبناء والبنات مما أقوله، ولكني أشعر بسعادة من قام بدوره على أكمل وجه. أما الفئة العمرية للنساء في منتصف العمر من الأمهات والنساء المتزوجات، فإن التعامل معهن يتم بحيادية كاملة، وخاصة خلال الحقبتين الأخيرتين، حيث أصبح الحجاب هو السائد على الجميع، ولا سلام باليد بين الرجال والنساء، حتى لو كان الرجل هو الطبيب الذي تلجأ إليه المريضة طالبة العون والمساعدة. وتتم التحية عن بعد بالكلمات وحدها، وبدون رد على الأغلب، وخاصة في وجود الزوج أو بعض رجال الأسرة الذين يبدأون هم بوصف المرض، ثم تقوم المريضة بإكمال الشكوى، وإجراء الكشف العام دون اعتراض عادة، والكثيرات قد يسفرن عن وجوههن قبل أو أثناء الكشف. أما فئة الشابات من الفتيات بين سن السادسة عشرة والعشرين أو ما بعدها قليلاً، فإنهن قد أصبحن خلال السنوات الأخيرة مثل حقل من الألغام الذي يتحسسه الطبيب بحذر، وقد لا ينجو من انفجار لغم في وجهه أو تحت أقدامه. مثل هؤلاء الفتيات في داخل نفوسهن طيبات، ولا يحملن ضغينة أو حقداً ضد الطبيب، لكنهن يتصفن بشدة الخجل وشدة الحياء من التغيرات التي حدثت في أجسادهن خلال فترة المراهقة والنضج الجسدي والجنسي، مما يدفعهن دفعاً إلى إساءة الأدب في التعامل مع الطبيب. هناك مثل يمني قديم، كنت قد سمعته منذ مدة طويلة، ولكنني لم أفهم المثل، ولا معناه، ولا مغزاه، وهو أن: « كثر الحياء يؤدي إلى قلة الحياء » وأعتقد أنني قد فهمت هذا المثل تماماً من خلال التعامل مع هؤلاء الفتيات، ثم وجدت له بعد ذلك تطبيقات عديدة في مختلف جوانب الحياة. فهؤلاء الفتيات منذ البداية، يرفضن الحديث عن الأعراض، ويتولى المرافق وهو عادة الأب أو الأخ أو الأم وصف الأعراض، ثم ينصحها بإشفاق وعطف أن تخبر الطبيب عن آلامها، ويشجعها على ذلك، ويؤكد لها مراراً وتكراراً أن الطبيب بالنسبة إليها بمقامة “الأب” أو هو “أب” بالفعل، وقد يستجيب بعضهن قليلاً أو كثيراً للإلحاح والضغط، أما بعضهن فقد يصبن بالحران والغضب، ليس ضد الطبيب وحده بل قد يشملن في ذلك الأب أو من يرافقها من الأهل. والغالبية من هؤلاء الفتيات وكثير من النساء يتحرجن من الحديث عن الوظائف الجسدية مثل الإمساك أو الإسهال أو إطلاق الريح، ويرفض بعضهن الإجابة عن شكل البراز ولونه، أو ما إذا كان محتوياً على دم أو مخاط، وقد تنكر بعضهن أنها تعرف عن ذلك شيئاً، أو أنها قد ألقت عليه حتى مجرد نظرة، تهرباً من الإجابة على السؤال. وإذا كانت مثل هذه الفتاة تعاني من أعراض مثيرة للشكوك بوجود أمراض حادة أو جراحية، فإن على الطبيب أن يستجمع كل الصبر والهدوء والحكمة، حتى يتمكن من إنهاء المعاينة على خير. أما الفئة العمرية الأخيرة فهم الأولاد والبنات من سن السادسة إلى الثانية عشرة، وهم فئة شديدة الاختلاف فيما بينها، وتشكل أنماطاً مختلفة ونماذج متعددة، ويتطلب التعامل مع كل ولد أو بنت من هذه الفئة العمرية تقديراً سريعاً لشخصيته ومميزاته وقدراته وأفكاره، وهو أمر يبرع فيه أطباء الأطفال المتمرسون. ولكن تقدير شخصية البنت أو الفتى وفهمها يتطلب وقتاً من الطبيب، والوقت هو الترف الوحيد الذي لايمتلكه الطبيب في عيادته، فهو يوزعه بين مرضاه ببخل شديد يصل إلى حد التقتير. بعض هؤلاء البنات والأولاد يتصفون بصفات ومميزات الطفولة البريئة حتى وإن بدت أجسامهم كبيرة بالنسبة إلى أسنانهم، وبعضهم يتميز بصفات التعقل والرزانة التي تتجاوز أعمارهم، حتى وإن بدا بعضهم ضئيل الجسم بالنسبة إلى سنه. ويحتاج كل من هذين النوعين إلى التعامل معه بطريقة مختلفة عن الآخر، لأن التعامل مع طفل يعتقد في قرارة نفسه أنه شخص راشد عاقل، على أساس أنه طفل في التاسعة، يسبب له من الإهانة ما لايتحمله، وما لايقدر على التعبير عنه، لكنه يظل جرحاً غائراً في أعماق نفسه وربما لوقت طويل.
ولقد تلقيت أول درس لي في كيفية التعامل مع الأطفال منذ وقت طويل جداً، من ذلك الطفل الذي كنت أكمن بداخله وأنا في التاسعة من عمري، وظل الدرس محفوراً في ذهني، ويبرز دائماً عندما أضطر إلى التعامل مع الأطفال بين السادسة والثانية عشرة أو بعدها بقليل. كان ذلك في عام 1959م، حيث كنت قد أنهيت دراستي الابتدائية في المدرسة الأحمدية في مدينة التربة الصغيرة، مركز قضاء الحجرية، وانتقلت إلى المدينة الكبيرة تعز حيث أقمت فيها شهراً قبل الانتقال إلى عدن للدراسة في مدارسها التي لم يكن لها نظير في شمال اليمن تلك الأيام. وكانت تعز قد أصبحت مقراً للإمام أحمد، وعاصمة مؤقتة له بعد ثورة 1948م، وإن ظلت صنعاء هي العاصمة الرسمية للمملكة المتوكلية اليمنية، أدى ذلك إلى انتعاش مدينة تعز، وتوسع البنيان والعمران فيها، ونشطت التجارة الواردة إليها من عدن، وأنشئ فيها مطار صغير، ولكن أهم مشاريع الإمام خلال تلك الفترة في تعز، هي بناء المستشفى الأحمدي وهو المستشفى الجمهوري حالياً واستقدام الأطباء الأجانب من الإيطاليين والفرنسيين وغيرهم، وإشرافه شخصياً على تسيير أعمال المستشفى واهتمامه بشئون العاملين فيها. كنت أشكو من ألم في الأذن يتردد علي من حين إلى آخر، وأخبرت عمي بذلك فاهتم بالأمر، وقال أنه سوف يأخذني في اليوم التالي إلى الطبيب في المستشفى، وبدت لي الفكرة عظيمة جداً، حيث سأتعرف لأول مرة على المستشفى الكبير، وسوف أرى أطباء حقيقيين من الذين يفتنون خيالي، والذين كنت أتصور دائماً منذ ذلك الوقت المبكر أنني سوف أصبح واحداً منهم في مستقبل الأيام. وفي صباح اليوم التالي صحوت مبكراً وارتديت ملابس أنيقة ونظيفة وكنت في غاية الاستثارة والتشوق للذهاب إلى المستشفى، ولكن عمي لم يكن يبدو على نفس الدرجة من الاستعجال، وتصورت لعدة ساعات أنه قد نسي الأمر، وأنه لم يكن جاداً بالفعل عندما قال لي في البارحة أنه سوف يأخذني إلى الطبيب في المستشفى. وكنت في تلك السن المبكرة من الأطفال الذين يسبقون أعمارهم، فيتصفون بالرزانة والهدوء والتعقل، ويمثلون أنهم أصبحوا كباراً وراشدين، ويحبون أن يتعاملوا كذلك مع الآخرين، فلا يبدون خفة الأطفال ولا نزقهم ولا طيشهم، وهم في ذلك يخسرون أجمل ما في الطفولة، من غير أن يدركوا ذلك إلا بعد فوات الأوان. ولذلك فقد انتظرت صابراً قلقاً، ولا أريد أن أذكر عمي بوعده بزيارة المستشفى، وبدون أن أبدي على ملامحي شيئاً من مظاهر لهفتي الشديدة على ذلك، ولكن الفرج أتى إلي أخيراً عندما قال لي عمي في حوالي الساعة العاشرة والنصف صباحاً: “هيا قم بنا سوف نتوجه إلى المستشفى لكي يعاين الطبيب أذنيك”، وعلى الرغم من أن داخلي قد رقص فرحاً، إلا أنني لم أبد شيئاً من ذلك على ملامحي، وقمت معه وكأن الأمر لا يهمني كثيراً، وأنا أخفي مشاعر اللهفة والشوق والاستعجال لهذه الزيارة التاريخية في حياتي للمستشفى وللطبيب. وكان أول مافاجأني عند دخولي من بوابة المستشفى العدد الكبير من الناس الذين يسيرون في الساحة الداخلية التي تتوسطها نافورة وبركة مائية صغيرة، وعلى الرغم من أن الناس يسيرون مسرعين، ويعرفون فيما يبدو إلى أين يتوجهون، فلم أتصور كيف يمكن أن يصل أحد خلال ذلك إلى الطبيب، وبدا لي أن الأمر قد يكون صعباً، وربما غير معقول، أنني سوف أشاهد الطبيب بالفعل ذلك اليوم. طلب مني عمي أن أقف بجوار النافورة وانتظره حتى يعود، ولم يغب طويلاً، وأعتقد أنه قد ذهب للحصول على تذكرة معاينة، وتوجهت معه بعد ذلك إلى باب صغير في آخر الساحة، ودخلنا منه إلى ممر طويل يحتوي على كثير من الغرف على جانبيه، مليئة بالأسرة والمرضى، وسرنا فيه إلى منتصفه حتى وجد مقعداً خشبياً طويلاً يجلس عليه بعض المرضى، فأجلسني عليه، وطلب مني الانتظار حتى يتم استدعائي لمقابلة الطبيب، بينما ذهب هو إلى بعض شأنه. ولم يطل انتظاري طويلاً، فقد جاء إلي ممرض يبدو أن عمي قد أوصاه بي، وطلب مني الدخول إلى إحدى الغرف الجانبية، التي فتح لي بابها وأدخلني فيها معه، حيث كانت في انتظاري مفاجأة عظيمة لم تكن قد خطرت لي على بال، فالطبيب أو الدكتور لفظاً ومعنى، كما أفهمه وكما أتخيله، هو رجل عظيم الشأن وحكيم، تحيط به هالة من التصورات التي كانت قد طافت في ذهني لوقت طويل، ولكن المفاجأة المذهلة أن من استقبلني كانت طبيبة أوروبية شابة شاهقة البياض، شقراء الشعر، ذات ملامح جميلة ومتناسقة، وتلبس البالطو الطبي الأبيض، وأزراره المفتوحة تكشف تحته عن فستان جميل، يظهرها في غاية الأناقة والجمال. وعقدت الدهشة لساني، ولم أعرف ماذا أقول وكيف أتصرف، فقد كان الأمر مذهلاً، حيث أشاهد لأول مرة امرأة أوروبية جميلة، وفوق كل ذلك طبيبة، وبدا لي الأمر كله خارج حدود الخيال. ومما زاد من ارتباكي أنها لم تستقبلني بكلمة ترحيب، ولم تقم بمصافحتي حسبما كنت أتوقع، ولم تنظر نحوي أو توجه لي أية كلمة، وظننت أنه يجب علي أنا القيام بذلك، ولم ينقذني من حيرتي تلك إلا الممرض الذي أدخلني إلى الغرفة حينما دفعني للجلوس على كرسي صغير أمامها، وقال لها كلمتين، فقامت بالكشف على حلقي وأذني بسرعة، وشخبطت كلمتين على وريقة صغيرة، ثم مدت يدها إلى علبة كبيرة على طاولة الكشف، وأخرجت منها شيئاً أحمر اللون ملفوفاً بورقة سيلوفان، ووضعته على الورقة الصغيرة، ودفعتهما نحوي دون أن تنظر إلي أو تكلمني كلمة واحدة، ثم أصدرت توجيهاتها إلى الممرض بدخول المريض التالي. وعلى الفور قادني الممرض خارج الغرفة وأعادني إلى المقعد الخشبي الطويل، طالباً مني الجلوس والانتظار حتى يعود إلي، أخذت أقلب الورقة الصغيرة في يدي، وقلت في نفسي أنها لابد وأن تكون الرشدة التي كتبت فيها علاجي، ولكنني حرت أعظم حيرة في ماهية القطعة الحمراء المغلفة بالسيلوفان، التي تبدو أنها مثل قطعة من “المليم” التي أعرفها معرفة جيدة، ولكن هل يعقل أن الطبيبة سوف تعطيني “مليمة؟!”.. قطعة من الحلوى.. كما نشتري منها تلك الأيام قطعتين ببيسة واحدة، وهي أصغر قطعة من العملة في اليمن تلك الأيام. وحيرني الأمر، وأخذت أقلب فكري، وأنا أضرب أخماساً في أسداس.. كلا.. لا يمكن أن تكون هذه مجرد مليمة.. لابد أنها شيء آخر.. لابد أن لها غرضاً ما.. وللأطباء في هذا المجال الكثير من العجائب والمدهشات.. وربما تكون شيئاً ضرورياً لعلاج أذني.. أو لإجراء عملية.. أو أي شيء آخر لا أدركه الآن.. لكن الأمر المؤكد أنها لايمكن أن تكون قطعة حلوى تافهة، استطيع شراء حفنة كبيرة منها بما في جيبي من النقود. وعدت أنظر إلى “المليَّمة” وأكاد أجزم بيقين أنها ليست سوى قطعة من الحلوى.. ولكنني عدت مرة أخرى إلى الشك .. كلا .. لو كانت مجرد قطعة حلوى،اعتاد الأطباء أن يقدموها إلى المرضى وربما الأطفال.. فإنها كانت سوف تقدمها إلي بطريقة لطيفة، أو مع ابتسامة رقيقة، وربما كلمتين من كلمات المجاملة، حتى وإن كانت بلغتها التي لا أفهمها فسوف أدرك الأمر، لكنها وضعت القطعة الملونة على الورقة التي كتبت عليها شيئاً، ثم دفعت بالاثنين نحوي، دون أن تنظر إلي، مما يؤكد لي أنها مشغولة بأمر علاجي، وأن هذه القطعة الحمراء هي مثل الورقة التي دفعتها إلي جزء من العلاج. استمرت تأملاتي وأفكاري تتردد في ذهني، وأنا أقبض على الورقة والقطعة الحمراء في يدي بحرص شديد: هل يقدم الأطباء الحلوى للمرضى؟! .. هل ذلك جزء من عمل الطبيب؟!.. كلا .. كلا.. لا يمكن ذلك .. لا أظن أن الأطباء يقدمون الحلوى والمليم والحقن، ولا أعتقد أنهم يجب أن يفعلوا ذلك .. الأطباء يقدمون للمرضى الأدوية، والحقن،ويخيطون الجروح،ويضمدون الكسور،ويقومون بإجراء العمليات الجراحية أحياناً، والتي أعتبرها من أعظم الأعمال الخالدة التي يمتلكون أسرارها المقدسة، ولا يستطيع خيالي مهما أغرقت فيه، أن يكون ولو فكرة صغيرة عن قدرتهم العظيمة على إجراء العمليات الجراحية لشفاء الناس من الأمراض الخطيرة. وبينما أنا في حيرتي تلك ظهر عمي فجأة أمامي، فلم أره أثناء قدومه من آخر الممر لشدة انشغالي بأمر القطعة الحمراء في يدي، وسألني ماذا فعلت فقلت له أن الطبيبة قد عاينتني،وأعطتني هذه الورقة وهذه القطعة الحمراء متسائلاً ما الذي يجب أن أفعله بهما. فأخذ الورقة من يدي وقال أنها أمر من الطبيب بإجراء غسيل الأذن في غرفة مجاورة، وذهب ليتحرى عن الأمر ويعرف من الذي يقوم بإجراء الغسيل وطلب مني الانتظار في مكاني حتى يعود،ولم يكد يبتعد قليلاً في الممر حتى عدوت خلفه وأنا ألح في سؤاله عما يجب علي فعله بتلك القطعة الحمراء المغلفة بالسيلوفان في يدي، وأنا أخشى أن يهمل أحد هذا الشيء الضروري للعلاج، والذي دفعته إلي الطبيبة بنفسها. ولكني فوجئت بعمي يرد علي بقليل من الخشونة، مبدياً بعض الضيق من غفلتي وإلحاحي بالسؤال:” مالك؟ .. أيش جرى لك! .. “مليَّمة .. أيش ما تعرفش المليَّم؟!”. وفي تلك اللحظة أدركت أن ما كنت أشعر به في حدسي، وما أنكره بعقلي وأرفضه هو الحقيقة الواقعة، وأن هذه الطبيبة المرأة قد عاملتني كطفل صغير، تمد إليه قطعة من الحلوى، ولم تدرك أنني أعتبر نفسي شخصاً راشداً جديراً بالمعاملة باحترام مثل جميع الآخرين،وشعرت ساعتها بالخزي والعار والإهانة، وتمنيت لو يفتح باب غرفة الطبيبة وتمنيت لو أنني أمتلك الجرأة للوقوف أمامها وأعيد إليها المليَّمة،وأن يكون ذلك استعادة لكرامتي، ورداً على طريقتها المهينة في التعامل معي. لم أستطع أن أفعل شيئاً من ذلك بالطبع، ولكنني أخفيت المليَّمة في جيبي حتى لا يراها أحد فيعرف ما حدث لي، وجلست في مقعدي منتظراً عودة عمي إلي، وقد زالت كل دهشة لي في أول زيارة كنت أتلهف عليها لرؤية المستشفى الكبير، وتحول شعوري إلى إحساس بالخيبة الكاملة، وقليل من المرارة التي خلفتها المليَّمة في حلقي، على الرغم من أنني لم أذقها وإنما أخفيتها في جيبي، ومع ذلك أحس بها جاثمة على صدري تكتم أنفاسي. وعاد عمي إلي، وقادني إلى غرفة أخرى، أجري لي فيها غسيل الأذن الذي لم يعد يهمني كثيراً، ولم أهتم بشيء مما كان يجري فقد كان بالي وفكري مشغولاً، وأنا أتمنى أن ينقضي الأمر بأسرع وقت،حتى أغادر المستشفى وانتهي من هذا الموقف السخيف. وعندما خرجنا من بوابة المستشفى كان أول شيء فعلته هو أنني أدخلت يدي في جيبي بهدوء،وأخرجت المليَّمة،ورميتها بسرعة إلى جانب الطريق،بدون أن ينتبه عمي أو أحد من المارة لما فعلت، وشعرت بعدها براحة شديدة، وأن ما فعلته كان أفضل انتقام قمت به من تلك الطبيبة المرأة التي أساءت معاملتي،وعلى الرغم من أنني كنت أدرك أنها لم تكن تقصد إهانتي،إلا أنني لم أستطع أن أغفر لها لوقت طويل. وظل ذلك الدرس الأول في كيفية تعامل الطبيب مع الأطفال بين سن السادسة والثانية عشرة، محفوراً في ذهني ويقفز دائماً إلى مقدمة ذاكرتي عندما أتعامل مع أي طفل من هذه الفئة العمرية المتميزة، وقد أتلطف في الحديث مع بعض هؤلاء الأطفال، وأسألهم عن أدائهم الدراسي، أو هواياتهم،وقد أتبسط في الحديث معهم، وأسترسل فيه، ولكنني لا أقدم لأحد منهم مليَّمة،أو قطعة من الحلوى. الهوامش “1” المليمة: قطعة من السكاكر ملفوفة بورقة سيلوفان، ويشتق الاسم من الليمون أو الليم الحامض أي أنها حلوى حامضة ولذلك يطلق عليها العراقيون تسمية “حامض حلو”.