ويقدم شعر بدوي الجبل نموذجاً فريداً لجدلية العلاقة بين اتكاء الشاعر على موروثه القومي في الشعر ، وتمثل خصائصه وقيمه وإنطلاقه بفعل المغايرة والتجاوز إلى أفق جديد ، يحقق حداثته الشعرية وخروجه من دائرة التكرار والاجترار ، واستعادة النسق المألوف للقصيدة العربية خصوصاً عند أعلامها الكبار في عصر ازدهار الشعر العربي. من هذه المفارقة يبدأ الوعي بقيمة مايمثلة شعر بدوي الجبل المتصل المنقطع ، المستمر والمجاوز في آن. ولابد أن نقطة البداية تكمن في أن هذا الشعر نتاج عبقرية شعرية قادرة على اصطناع لغتها الخاصة ، ونسج عالمها المتميز من الصور والمجازات الشعرية ، وامتلاك معجم شعري متنوع الصياغات والدلالات ، ويكاد يكون المعجم الديني الصوفي أكثر مايتكئ عليه بدوي الجبل في صياغة اللغة الشعرية التي تحمل النفس الروحي ، وقد ساعده على الخوض في ذلك والده الشيخ/ سلمان الأحمد ، حيث كان يرافقه في ترتيل القراءة وتجويد الشعر والنظم الديني في الحكمة ، ولكن هذه الروح الدينية المتغلغلة في خلاياه نبضاً وحرارة ومعجماً شعرياً لم تحل بينه وبين انتهاكات شعرية وفنية جريئة لكثير من طقوس اللغة السائدة والأعراف المتبعة ، ويبرز هذا الانتهاك والتمرد في معظم قصائده لعل من أهمها قصيدته المسماة «ياوحشة النار» التي يقول فيها : تفجر الحسن في دنيا سرائرنا هل عند ربك من دنيا كدنيانا حضارة الدهر طيب من خلاعتنا وجنة الله عطر من خطايانا من الغواية سلسلنا هوايتنا فكان أرشدنا للنور أغوانا ياوحشة الكون لولا لحن سامرنا على الندى المصفى من حميانا نشارك الله جل الله قدرته ولا تضيق بها خلقاً واتقانا وأين إنسانه المصنوع من حمأ ممن خلقناه أطياباً وألحانا ولوجلا حسنه إنسان قدرتنا لود جبريل لو صغناه إنسانا ومن يقرأ شعر الجبل في زماننا ، له ان يسجل هذه الروح الشعرية المتمردة الثائرة على كل ماهو تقليد وسائد في إطار القهر اللغوي والاجتماعي ، وأن يسجل في الوقت نفسه رحابة عصر البدوي وعقول أبنائه بكل ما استحدثه البدوي ونظراؤه من اختراق في سقف اللغة ، والهجوم على كل ما هو جدي ومبتكر سواء كان لفظاً ومعنى، صيغة وروحاً ، أفقاً ودلالة. ولد بدوي الجبل سنة 1905م في بيئة ساحلية مفتوحة ، مزينة بالخضرة والشمس والتضاريس السامقة ، وكما سبق وتحدثنا فإن والده سليمان الأحمد كان أستاذه ومدرسته الأولى، حيث تتلمذ على ذلك المثقف الموسوعي ، فأطل على كنوز المكتبة العربية شعراً ونثراً ، ونمت برعاية الأب الفقيه اللغوي الشاعر الإنسان ملكات الفتى محمد قبل أن يحمل لقب بدوي الجبل ، فاكتست روحه ولغته باللطف والرهافة والكبرياء والأنفة والاناقة والجمال ، فكتب الشعر المتقن في سن مبكرة مما جذب الأنظار إليه، وفتح الباب واسعاً لطموح الفتى ، ورغم المشكلات التي تعرض لها وحصد جراءها السجن والنفي والتشرد إلا أن الشعر كان ملاذه وفضاءه الوجداني ورمز قوته ، ولم يكن يسمح الشاعر بولادته إلا حين تنضج القصيدة ، ويمتلئ قلب الشاعر بالحب والحزن والكبر والطموح ، وهكذا فتراث بدوي الجبل الشعري يدلنا على الينابيع الكثيرة التي نهل منها في التراث العربي لعل أهمها القرآن الكريم ونهج البلاغة ودواوين الحماسة والشعراء الكبار في عصور القصيدة العربية المختلفة. وبدوي الجبل شأن كل القامات الشعرية الكبيرة ، أعاد تشكيل لغته واسلوبه ، ونجا بنفسه وبشعره من أن يكون تابعاً لقامة أخرى أو صدى لأسلوب شاعر آخر. وإذا وجد ناقد أو باحث صورة أو شعراً أو معنى من المعاني يشترك فيها بدوي الجبل مع شاعر أو أكثر ، أو وجد تضميناً لحكمة مأثورة أو آية كريمة فإن هذا طبيعي ، لأن المبدع شاعراً كان أم ناثراً أم رساماً أم عالماً في أي مجال لابد أن تنضح ثقافته في إبداعه بقصد منه حيناً أو دون قصد أو إدراك أحياناً أخرى. ومن هذه الأمثلة فإن أبا تمام على سبيل المثال يقول في مطلع قصيدته : من سجايا الطلول الا تجيبا فصواب من مقلة أن تصوبا ويأتي بدوي الجبل بعد زمن طويل ليقول في مطلع قصيدة يرثي بها أحد أصدقائه : لا تسلها فلن تجيب الطلول المغاوير مثخن أو قتيل والظاهر هنا أن بدوي الجبل ما هو إلا صاحب حق في جديد استخدامه للفكرة التي اكتست لباساً آخر أعطاها جاذبية تفوق مطلع أبي تمام وإن بقي لأبي تمام فضل الإبتداء في القول. وإذا وقفنا أمام البحتري أو أبي الطيب المتنبي أو الشريف الرضي أو أبي فراس وغيرهم ممن أكد بدوي الجبل غير مرة إعجابه بشعرهم فإننا قد نجد معاني كثيرة مشتركة كالمثال السابق مع أبي تمام ، وربما وجدنا ملامح صياغة مشتركة أيضاً ، ولكن البدوي يقدمها وقد جد فيها وأبدع ، وأدخل اليها رؤيته ، والبسها صوراً ومعاني تحمل ميسم عصره ، بل ميسمه الخاص. ولعل الاعتداد بالشعر والنفس قاسم مشترك بين المتنبي وبدوي الجبل والأمثلة كثيرة جداً عند الشاعرين ، وتكاد تكون في معظم القصائد ، ومن المعاني المتداخلة في هذا المضمار قول المتنبي : وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا ويقابله عند بدوي الجبل قوله : «الخالدان ولا أعدّ الشمس شعري والزمان» فثنائية الشعر والزمن موجودة في البيتين لكن بلبوسين وأسلوبين يوحد بينهما الاعتداد. ويقول المتنبي في قصيدة أخرى معبراً عن غربته في وطنه وفرادته في قومه : ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود بينما يلجأ بدوي الجبل لتأكيد هذه الفرادة بأسلوب خاص يحسب له ، ففي قصيدته «البلبل الغريب» التي كتبها في المنفى يقول الجبل : ولي وطن أكبرته عن ملامة وأغليه أن يدعى على الذنب مذنبا يمزق قلبي البعد عمن أحبهم ولكن رأيت الذل أخشن مركبا واستعطف التاريخ ضناً بأمتي ليمحو ما أجزى به لا ليكتبا والظاهر هنا أنه لم يذكر بلغة تقريرية مباشرة مكانته ، وإنما جعلنا نستلخصها عندما وجدناه يستعطف التاريخ ، ويرجوه لكي يفصح عن أمته ، فلا يدون ما تعامله به أمته حفاظاً عليها ، لأن مثل هذا التاريخ إن حدث فإنه سوف يسيء إلى أمته لأنها لم تقدر عبقرية الشاعر حق قدرها. ومثل هذا التداخل موجود عند معظم شعراء العربية وغير العربية ولو اردنا الاحصاء لوجدنا عشرات الشواهد في أشعار بدوي الجبل أو غيره ، ولكن الذي يجب ان يعنينا البحث عنه ، هو مدى استقلال الأسلوب وبناء العبارة وتركيب الصورة النهائية لشعر الشاعر. والملاحظ أن لبدوي الجبل أسلوبه الذي يمتاز به ويميزه عن شعراء عصره وسابقيه من حيث مطاوعته للغة وصياغة المفردات والكلمات بالشكل الذي يريد ، الأمر الذي يجعله في قائمة الذين أبدعوا وتركوا بصمات هذا الابداع في نتاجهم الأدبي ، ومن أمثلة ذلك على سبيل الذكر لا الحصر كلمة «تأنق» والتي استوقفتني أكثر من مرة وأنا أقرأ مختارات من شعره ضمن سلسلة كتاب في جريدة (عدد اكتوبر 2006م) هذه الكلمة ابتكر لها بدوي الجبل مكاناً لم يكن بمكانها المألوف الذي تعودنا عليه عند أغلب الشعراء. ولنصغي إليه في هذا البيت الذي يقول فيه : تغضي على الذل غفراناً لظالمها تأنق الذل حتى صار غفرانا وفي بيت آخر : تأنق الدوح يرضي بلبلاً غردا من جنة الله قلبانا جناحاه وفي بيت ثالث : يؤنق الظلم من أعذاره نفراً كأنهم من هوان الذل ماوجدوا إنه إبداع قل نظيره ، فهو يداعب هذه المفردة في أكثر من اتجاه ، ولعلّ الأروع في ذلك وصفه أشياء على غير مسمياتها كالذل الانيق أو الظلم الأنيق ، وهذه وتلك أوصاف تحسب له ، وقلما نقرأها أو نسمعها من شعراء زماننا. ويعتبر شعر بدوي الجبل ملاذاً وظلاً يتفيأ فيه الكثير ممن يقرأ هذا الشعر لما يتميز به الجبل ، فهو يكتب في الرثاء والغزل والهجاء والمدح وكل قصيدة عنده رثاء كانت أم غزلاًأم هجاء أم مديحاً أم أي أمر فإنها تحمل روح الشاعر وهواجسه ورؤاه وقناعاته فلا تبقى أسيرة العنوان أو المناسبة. وبدوي الجبل بهذا المعنى قد لايبدو مبتدعاً لطريقة أو مغايراً لتقاليد راسخة ، لكنه بالمقابل ليس قيمة تراكمية عابرة في الشعر العربي ، وإنما تجربة تفاعلية ومختبر لالتقاء طرق ولقاح تجارب ، فقصائده في مغتربه الأوروبي مثلاً مشحونة بطاقة تعبيرية أخاذة ذات صورة ولوعة وحرقة ، فيما تمتاز قصائده في المنافي العربية ببغداد وبيروت بشحنة كبيرة من الاحتجاج والغضب. وقد تعرض بسبب قصائده للسجن والمنفى كثيراً ، بل بلغ الأمر أن تعرض لاعتداء جسدي بعد أن كتب قصيدة عقب حرب 67م اسماها «من وحي الهزيمة» يقول فيها : رمل سيناء قبرنا المحفور وعلى القبر منكر ونكير كبرياء الصحراء مرغها الذل فغاب الضحى وغار الزئير أيها المستعير ألف عتاد لأعاديك كل ما تستعير أغرور على الفرار ؟ لقد ذاب حياء من الغرور الغرور جُبن القادة الكبار وفروا وبكى للفرار جيش جسور هُزم الحاكمون ؟ والشعب في الأصفاد فالحكم وحده المكسور هُزم الحاكمون .. لم يحزن الشعب عليهم ولا انتخى الجمهور وقد خاطب بدوي الجبل فرنسا حين كانت تستعمر موطنه بعد أن دخلتها جيوش هتلر النازية بالقول : سمعت باريس تشكو زهو فاتحها هلا تذكرت ياباريس شكوانا لعلّه تبعث الأحزان رحمته فيصبح الوحش في برديه إنسانا والحزن في النفس نبع لا يمر به صاد من النفس الاعاد ريّانا والخير في الكون لو عريت جوهره رأيته أدمعاً حرىّ وأحزانا وتراه في الجانب الآخر أعني به الجانب الشخصي يشكو لواعج الفراق التي يسببها بعد الأحبة والأصدقاء عنه : لا يبعد الله أحباباً فجعت بهم وما علالة قلبي بعدما بعدوا الناشئون على نعماء مترفة تقيلوا الرمل في الصحراء واتسدوا مشتتين فمن أجسادهم مزق على الأديم ومن مرانهم قصدُ ويرثي صديقاً له تخطفته يد الردى : همي الهم لو تكشف للناس لأغرى حسناً وأغوى بريقا إن قلبي خميلة تنبت الأحزان ورداً ونرجساً وشقيقا إن بعض الأحزان يخطب بالمجد وبعض الأحزان يشري رقيقا هذه التنويعات والمعاني وصيغها تجعل من البدوي مجدداً في شعره ، وتجعل من البحر والقافية إطاراً جمالياً ، وقد أقرّ المبدعون الكبار بقدر الشاعر بدوي الجبل وقيمته ، فسعيد عقل قال : «إن بدوي الجبل واحد من قلائل شعراء الدنيا في كل لغاتها وعصورها». وتحدث عنه أدونيس بالقول : «ليس شعر بدوي الجبل استطالات لأجمل ما عرفته الكلاسيكية الشعرية العربية وحسب ، وإنما هو كذلك تتويج وخاتمة ، وفي نتاجه ما يكتنز المفارقة الإبداعية ، لقد ضم تاريخاً شعرياً بكامله ، وهو في الوقت نفسه وبالقوة نفسها يتيح للشعر العربي أن ينعطف فيبدأ بنبض آخر وتاريخ آخر». أما المبصر الأعمى أستاذنا عبدالله البردوني فقد قال عن بدوي الجبل : أن عيبه الوحيد بين شعراء عصره رتابة التميز..». ووصفه الشاعر نزار قباني بأنه آخر سيف يماني معلق على جدار الأدب العربي». رحل الشاعر بدوي الجبل عن دنيانا في العام 1981م ولم ترحل معه قصائده ، بل هي خالدة خلودالشعر وستبقى ومضة نور في زمن مظلم ، وسوف تبقى نبراساً للأجيال القادمة ، لأن شعر هذا الشاعر يبقى مالكاً لجاذبيته وقوة إدهاشه لقرائة يوماً بعد يوم ..!! هامش: مجلة العربي العدد 566-2006م. مجلة نزوى العدد 49-2007م. كتاب في جريدة اكتوبر - 2006م.