منذ بداية الفلسفة عند اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، كان التنوُّع موجوداً ويتضح ذلك في تفسيرات الفلاسفة لأصل الكون المادي من ماء عن طالس إلى لا محدود عند اناكسيمندر إلى هواء عند اناكسيمنس، ليأتي بعده فيثاغورث بالأعداد ومن ثم هيراقليطس بالنار كتفسير للكون، ليبدأ الانقسام من لدن الفيلسوف بارمينيدس الذي كان يعتقد أن المادة تملأ العالَم كلّه؛ وعلى ذلك فيتصوّر العالَم كرة مادية مصمتة متناهية متجانسة بلا زمن ولا حركة ولا تغيُّر، والذي تقرّره حواسنا من صفات للمادة هي زائلة ومتغيرة؛ إلا شيء واحد هو الكينونة التي هي أصل الكون ولا نصل إليه بالحواس بل بالعقل المجرّد؛ وكل شيء خلافه هو وهم.. فأصبح العالَم عالمين; عالَم الوهم وهو المواد المتغيرة التي تدركها حواسنا وعالَم الحقيقة وهي الجوهر أو الكينونة الثابتة الذي لا يتغير وغير قابل للانقسام ولا يُدرك إلا بالعقل المجرد. ثم تتابع الفلاسفة بعد ذلك حول محور الثنائيات، حتى وصلنا إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في القرن السادس عشر الميلادي الذي صبغت الثنائية الفكر عنده (مادة روح) بل ولازمته حتى عُرف بها، وأصبحت هذه الثنائيات بعده هي محل تساؤلات الفلسفة وكيفية التكيف معها بل التمرُّد عليها، فتنوعت تلك التساؤلات بقدر تنوُّع العقول التي فكّرت فيها وكان نتاج ذلك عشرات الفلسفات ذات الأسماء المتعدّدة؛ فمن العقلانية والتجريبية والبراجماتية والوجودية والنفعية والجدلية.... إلخ. ونحن في المشرق العربي والإسلامي لسنا بعيدين عن ذلك وأثره سواء في فلسفتنا أم حياتنا الفكرية، فلمّا دخلت الفلسفة علينا في القرن الثاني الهجري - عندما تُرجمت أغلب كتب اليونان إلى لغتنا - بدأ فلاسفتنا في هذا المضمار، وجاروا الغرب إذا لم أقل سبقوهم في تساؤلات عديدة، فالإمام أبوحامد الغزالي سبق ديكارت في شكّه حول حقيقة الأشياء والفرق بين العالم الواقعي والأحلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية سبق ديفيد هيوم في نبذ المنطق وعدم فائدته، وكان ابن رشد الشارح الأكبر لفلسفة أرسطو الذي غرفت أوروبا منه الكثي؛ لكن هذا الثراء الفكري لدى علمائنا الأوائل لم يستمر إذ صادر علماء (النصوص) بعد حادثة خلق القرآن منهج المعتزلة في استخدام العقل لقراءة النقل، وانتصرت السياسة لرجال النقل على رجال العقل لنرث النصوص المجردة وما كُتب عن هذه النصوص إلى اليوم. هذا الإرث الثقيل أدخلنا في مزالق الثنائية المقيد لكل فكر، فأنت إما (مع أو ضد) لا ثالث لهاتين الحالتين، وفقهنا كُبس في حالتين (حلال حرام) ولم أعد أسمع من حضرات المفتين الكرام التدرّجات التي ملأت كتب الفقه (مكروه مندوب مستحب.... إلخ) إنما حدّان لا ثالث لهما ولا تدرّج بينهما. فاختفت كل ألوان الطيف المتعدّدة ليبقى لونان متضادين فقط (أبيض أسود) دون أن يعلم المصادرون لحرية الفكر أن اللون الأبيض ما هو إلا خلطة من كل الألوان مجتمعة؛ في حين أن اللون الأسود لا يعني إلا مصادرة لكل الألوان مجتمعة أيضاً. فأي فكر هذا، وأي إرث يتحدّثون عنه..؟!. أنا لا أعتقد أن تراثنا الفكري العربي والإسلامي بمثل هذا الحال الذي يعرضه المحدّثون اليوم لأن إرثاً بمثل هذه الحدّية المزعومة والمصادرة المعروضة علينا لا يمكن أن يصنع دولاً سياسية ولا حضارة كالتي وثّقها التاريخ في القرون المنصرمة على تلك الرقعة الواسعة من الأرض (من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً)..!!. إننا اليوم لمّا نتلفت حولنا سنجد أن الدول العظمى قائمة على تنوّع خصب لا ثنائية قاتمة مقيدة لكل عطاء. لذا أي حوار في منطقتنا العربية تصدمنا العقلية العربية التي تربّت على إرث مثل هذا قائم على ثنائية مفرطة، فبالله عليكم كيف يكون الحوار بين لونين لا ثالث لهما ولا يقبلان أي لون آخر..؟!. إن الثنائية القاتمة تفرز الأحادية المقصية لكل طرف؛ حيث يدّعي أي طرف أنه يحمل الحقيقة المطلقة في دوغمائية مقيتة ولا أحد غيره لديه شيء، فعلى ماذا يحاور..؟!. إن صبغة الثنائية الفكرية التي نمت عليها مجتمعاتنا العربية يجب أن نخفّف من غلوائها بالانفتاح على الأفكار الكثيرة والمتنوّعة؛ لأن التنوُّع هو سنّة الله الكونية في كل شيء، وهذه الأحادية المفرطة ضمن هذه الثنائية المغلقة تعتبر خروجاً عن السنّة الكونية، فيصبح أصحابها (شواذاً) عن مسار هذا الكون الفسيح، وصدق الله العظيم إذ يقول: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) «يس:36».