تحل هذه الايام الذكرى الستين لاندلاع الثورة الناصرية في 23 يوليو تموز عام 1952 التي وضعت حدا لحكم اسرة محمد علي باشا الوراثي الممتد لقرن ونصف القرن وأتاحت طرد الاحتلال البريطاني من مصر المستمر منذ العام 1882 و جعلت الحكم المصري السيد الوحيد على قناة السويس ودعمت العديد من الثورات العربية ضد الظلم ومن بينها الثورة اليمنية في 26 سبتمبر عام 1962 ضد الحكم الامامي و 14 اكتوبر عام 1963 ضد الاحتلال البريطاني. لقد غيرت ثورة يوليو وجه مصر عبر اصلاحات اقتصادية جذرية وحتى صار في عهدها هذا البلد يأكل مما يزرع ويلبس مما ينسج ويلبي حاجاته مما يصنع وغيرت ايضا وجه العالم العربي فصار العرب يرفعون رؤوسهم التي كانت مطأطئة تحت نفوذ وسلطة المحتلين الاتراك اولا والأجانب من بعد. وفي عيدها الستين مازالت خيارات هذه الثورة موضع نقاش حاد . هل اخطأت وأين وما نوع الاخطاء؟ هل كان بوسع قادتها تجنب اللجؤ الى وسائل قمعية من بينها تعذيب وترهيب خصومها . هل يجوز رميها بأخطائها والحكم عليها بالإعدام ام اعتماد حسن النية و بالتالي قول الحق بشأنها حيث كانت محقة وقول الباطل حيث كان الباطل ؟ هذه الاسئلة وغيرها ما زالت مطروحة على يوليو مصر بعد مضي ستة عقود على اندلاعها فهل هناك ما يوجب القول بشأنها؟ يبدو لي ان ثورة 23 يوليو المصرية رغم كل ما قيل ويقال عنها ما زالت في ريعان شبابها ومابرحت موضوعاتها الاساسية عصية على التجاوز ومن بينها الوحدة العربية والسوق المشتركة والتنمية الوطنية المستقلة والدفاع العربي المشترك وتحرير الاراضي الفلسطينية.... الخ.وإذا كان شعار الاشتراكية قد تحول من النمط السوفيتي الذي فشل في البلد الام فان الاشتراكية بمضمون العدالة الاجتماعية هي الاقرب اليوم الى واقع الحال. اما الحرية التي كانت سائدة في عصر ثورة يوليو فهي تلك التي ما كانت تسمح لعدو الانبثاث داخل الفضاء الوطني وتخريبه وتولي دور الطابور الخامس فيه وهذا بالضبط ما فعله جمال عبد الناصر في مصر من خلال صراعه المكشوف مع الاخوان المسلمين الذين كانوا في حينه على تحالف وثيق مع الغرب وعلى طاعة صريحة للدول العربية المحافظة تعكسها صور المرشد حسن البنا مقبلا ايادي الزعماء العرب المحافظين. وإذ امتنع عبد الناصر من منح الاخوان المسلمين "سلاح" الحرية للاطاحة بحكمه فانه امتنع ايضا من منح السلاح نفسه للتيار الشيوعي وقد تعرض التياران للقمع الشديد والتعذيب في اقبية المخابرات المصرية و وتعرضت اسرهم لشتى انواع الضغوط والترهيب وهي ممارسات جديرة بالادانة الشديدة في مصر وفي غير مصر. والجدير بالذكر ان الاجراءات القمعية المصرية في ذلك الحين كانت تتأثر بالسياسة الامريكية في مجال حقوق الانسان فواشنطن بادرت اوائل الخمسينات بزعامة السيناتور جوزف ريموند مكارثي الى تطهير ادارات الدولة والمجتمع من الشيوعيين واليساريين معتبرة انهم عملاء للاتحاد السوفيتي وكان مكارثي يرسم اللوائح السوداء على الظن والشك الغامض وما ان تظهر اللوائح حتى يتعرض اصحابها للعزل او الفصل من اعمالهم او التحقيق القضائي الصارم وقد طالت المظالم المكارثية طبقة واسعة من المثقفين في منهاتن والعديد من الولاياتالامريكية في مختلف مجالات الابداع وعلى الرغم من طي صفحة المكارثية بعد تحقيق اغراضها في اثارة الرعب في صفوف اليسار الامريكي وردعه عبر العقاب المعنوي وعلى الرغم من تبخر هذا اليسار الى درجة الصفر على المسرح الامريكي فان الولاياتالمتحدة مازالت حتى اليوم ترهب طالبي التأشيرة الاجانب بأسئلة من نوع :هل تعتنق الشيوعية او ما شابه ذلك. كان يجدر بمصر الناصرية ان تمتنع عن التأثر بالمكارثية في ملاحقة الشيوعيين والأخوان المسلمين بيد ان الثقافة السياسية العربية السائدة في حينه كانت مكونة من عناصر بعضها مستورد مما يعرف بالدول المتقدمة وعلى رأسها امريكا وبالتالي يمكن توسيع اطار النقد ليشمل المكارثية الام وليس فقط ابناءها ويظهر لي ان ورثة جمال عبدالناصر او المخلصين منهم لا يقرون اليوم هذا الجانب في ثورة يوليو بل ربما يجتهدون في ادانته بقوة وبأثر رجعي علما بان بعض ضحايا التعذيب في تلك الفترة اعادوا الاعتبار للثورة الناصرية وطووا تلك الصفحة السيئة التي تسببت بها. وإذا كانت افكار" 23 يوليو "مازالت بقسمها الاكبرشابة فان مصر تدين لها بانجازات حيوية وفرت على المصريين كوارث جمة ومن بينها السد العالي الذي انقذ مصر في الثمانينات من تسع سنوات جفاف خلفت مصائب وصلت الى حد المجاعة في السودان . ويقول احد الخبراء الاجانب في هذا الصدد " ان سد اسوان هو العمود الفقري للبحبوحة الزراعية والصناعية والاجتماعية في مصر.لقد تحققت اهداف السد في انتاج الطاقة الكهربائية وتوفير المياه لري الاراضي الزراعية المستصلحة والقديمة وفي تنويع المحاصيل وحماية البلاد من الفيضانات والشح المائي وفي السياحة وفي الصيد البحري وفي تحسين الملاحة في النيل وخلق فرص عمل وتأهيل جيل جديد من المهندسين والتقنيين والعمال المؤهلين وفي زيادة الدخل الوطني". اما الاثر الاكبر للثورة فيبقى ماثلا في الثقافة العربية التي اشاعتها على صعد مختلفة ولا سيما في مجال الفنون حيث سينما وغناء وشعر وادب تلك الفترة مازالت اجيال عربية تتوارثه باعتباره مرجعية تستحق الاتباع في حين ما انفكت الثقافة السياسية الناصرية تتجول خفية او صراحة في نصوص القسم الاكبر من المبدعين العرب . تبقى الاشارة الى ان الاجانب صنفوا هذه الثورة وقائدها بين احداث وأبطال القرن العشرين الكبار بل اولئك الذي غير وجه التاريخ فلولا تلك الثورة لظلت الجزائر فرنسية وعدن بريطانية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مرتعا للاستعمار القديم وللعبودية الحديثة. وأخيرا ربما على الرئيس المصري محمد مرسي الذي ينتمي الى تيار الاخوان المسلمين ان يتذكر كلما جلس كرسي الرئاسة في قصر عابدين انه يدين بموقعه لجمال عبدالناصر مرتين: المرة الاولى لان ناصر وضع حدا لملكية اثقلت كاهل مصر لقرن ونصف القرن وأتاح لابناء الشعب المصري تولي شؤونهم بأنفسهم والمرة الثانية لان ناصر صمم وطبق قوانين الاصلاح الزراعي التي سمحت لمرسي الاب بتعليم ابنه حتى صار ذات يوم رئيسا للجمهورية. لقد تولى التيار الناصري الحكم منفردا لعقد ونصف العقد تمكن خلالها من تغيير وجه مصر والعالم العربي على كل صعيد ..اما خصومه الذي مازالوا يحكمون حتى اليوم فقد مروا على هذا العصر وسيمرون على الارجح مرور الكرام .. في عيدها الستين نقول شكرا لثورة يوليو ولقائدها مازلت حيا ومازال خصومك اموات لم يكرمهم احد بدفنهم بعد.