صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    عيد العمال العالمي في اليمن.. 10 سنوات من المعاناة بين البطالة وهدر الكرامة    العرادة والعليمي يلتقيان قيادة التكتل الوطني ويؤكدان على توحيد الصف لمواجهة الإرهاب الحوثي    حكومة صنعاء تمنع تدريس اللغة الانجليزية من الاول في المدارس الاهلية    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    الهجرة الدولية: أكثر من 52 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الفرار من بلدان تعج بالأزمات منذ 2014    وزير الصناعة يؤكد على عضوية اليمن الكاملة في مركز الاعتماد الخليجي    "خساسة بن مبارك".. حارب أكاديمي عدني وأستاذ قانون دولي    حرب الهيمنة الإقتصادية على الممرات المائية..    رئيس الوزراء يوجه باتخاذ حلول اسعافية لمعالجة انقطاع الكهرباء وتخفيف معاناة المواطنين    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    هل سمعتم بالجامعة الاسلامية في تل أبيب؟    عبدالله العليمي عضو مجلس القيادة يستقبل سفراء الاتحاد الأوروبي لدى بلادنا    وكالة: باكستان تستنفر قواتها البرية والبحرية تحسبا لتصعيد هندي    لأول مرة منذ مارس.. بريطانيا والولايات المتحدة تنفذان غارات مشتركة على اليمن    هدوء حذر في جرمانا السورية بعد التوصل لاتفاق بين الاهالي والسلطة    الوزير الزعوري يهنئ العمال بمناسبة عيدهم العالمي الأول من مايو    عن الصور والناس    حروب الحوثيين كضرورة للبقاء في مجتمع يرفضهم    أزمة الكهرباء تتفاقم في محافظات الجنوب ووعود الحكومة تبخرت    الأهلي السعودي يقصي مواطنه الهلال من الآسيوية.. ويعبر للنهائي الحلم    إغماءات وضيق تنفُّس بين الجماهير بعد مواجهة "الأهلي والهلال"    النصر السعودي و كاواساكي الياباني في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    اعتقال موظفين بشركة النفط بصنعاء وناشطون يحذرون من اغلاق ملف البنزين المغشوش    الوجه الحقيقي للسلطة: ضعف الخدمات تجويع ممنهج وصمت مريب    درع الوطن اليمنية: معسكرات تجارية أم مؤسسة عسكرية    رسالة إلى قيادة الانتقالي: الى متى ونحن نكركر جمل؟!    غريم الشعب اليمني    مثلما انتهت الوحدة: انتهت الشراكة بالخيانة    جازم العريقي .. قدوة ومثال    دعوتا السامعي والديلمي للمصالحة والحوار صرخة اولى في مسار السلام    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    معسرون خارج اهتمامات الزكاة    الاحتلال يواصل استهداف خيام النازحين وأوضاع خطيرة داخل مستشفيات غزة    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الدكتوراه للباحث همدان محسن من جامعة "سوامي" الهندية    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    الأزمة القيادية.. عندما يصبح الماضي عائقاً أمام المستقبل    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    علامات مبكرة لفقدان السمع: لا تتجاهلها!    حضرموت اليوم قالت كلمتها لمن في عينيه قذى    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    حضرموت والناقة.! "قصيدة "    حضرموت شجرة عملاقة مازالت تنتج ثمارها الطيبة    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النقد الأدبي بين التماثل والتباين:البردوني: الأدباء يفوقون الساسة في جرأتهم النقدية لأنهم يسمون الأشياء باسمائها ويصفون الألوان بصفاتها
نشر في 26 سبتمبر يوم 15 - 10 - 2019

{ أول الخصومات الشعرية في الأدب العربي نشأت بين علقمة الفحل وامرئ القيس بن حجر ويرجع النقاد ذلك باعتبار الأول ابن الشعب والثاني ابن القصور الملكية
من المسائل النفسية التي أشار إليها «فرويد»، وبسطها خلفه «يونج» مسألة التشابه والتباين في الشخصيات، وما يترتب عليهما من علاقات الود وعواطف الكراهية، فقد يتسبب التشابه بين الشخصين في خلق أمتن علائق حب أو أقوى علاقة كراهية، فأحياناً يحب الشبه شبيهه لأنه يرى ذاته الثانية، وأحياناً يعاديه لأنه يفقد فراداته بوجوه متشابهة، وقد تقوى عواطف الود أو الكراهية إذا التقى المتشابهان في مهنة واحدة أو صفة عملية كقيادة، كمزاج فني، أو أي مجال من مجالات التسابق والتنافس..
عرض/ أمين أبو حيدر
كذلك المتباينين فقد يود النقيض نقيضه لأن فيه ما ينتقده وقد يشتد التكاره بفعل التناقض.. ومن القاعدة التشابهية والتباينية، نظر الأستاذ عباس العقاد في أسباب الخلاف بين «عمر بن الخطاب» وخالد بن الوليد» فرد خلاف الرجلين في عبقريتيه إلى التشابه بين الاثنين إلى حد التماثل: كان الرجلان متشابهين في الجرأة والإقدام، وكانا متساويين في طول القامة، فلا يميز الرائي هذا من ذاك إلا عن قريب، بل كانا يتشابهان في نبرة الصوت فلا يميز السامع صوت «عمر» من صوت»خالد» إلا بعد إنصات واقتراب من صاحبي الصوت، ومضى»العقاد»، يسرد «الشواهد والمشاهدات عن تماثل الرجلين، ويرتب على هذا سبب إقدام «عمر» على عزل»خالد» بحجة قتل»مالك بن نويره» لكي يستأثر «خالد» بزوجته، كما تقبل «خالد» لأمر العزل بنفس الرجولة التي يتمتع بها «عمر»، فالتشابه هنا سبب توتر العلاقة أو احد أسبابها، بينما لا ينطبق هذا بين «أبي بكر» و»عمر» بفضل التباين بين حدة الفاروق ووداعة الصديق، كما لا ينطبق هذا على «أبي جعفر المنصور» و»معن بن زائدة» رغم تشابههما في الطول والجرأة والتحصيل الدراسي ومراس العمل القيادي.. وربما كان الساسة والقادة أقدر الناس على غلبة عواطفهم وحجب نواياهم، أما الأدباء فيفوقون الساسة بإبداء ما في النفس كما هو في العمل الفني وفي التحدث العادي، لأنهم يسمون الأشياء بأسمائها ويصفون الألوان بصفاتها، لهذا يفضون أحبتهم بنفس الطاقة التي يبرزون بها عداواتهم لبعضهم أو لغيرهم، وذلك بفضل شفافية الحاسة الادبية وعفوية الفطرة الصافية، وقد ينطبق على الأدباء من التعليل ما ينطبق على غيرهم، وربما أدى التشابه والتباين بين الأدباء إلى التعادي أو التصافي كسائر القادة والساسة، ولكن بالإضافة إلى عوامل طبقية واجتماعية، ولعل «امرئ القيس» و»علقمة الفحل» أول شاعرين متباينين متشابهين قامت بينهما الجفوة والمودة أبان طفولة النقد الشعري بحكم المزاج الفني والنزوع إلى التفوق فيه، فبعد أن أجمعت الآراء على تقديم «امرئ القيس» توالدت نبرات وهمسات تحاول أن توازن»علقمة» بامرئ القيس بل وتحاول أن ترجح كفة»علقمة فكان الجمهور يستدعي الشاعرين للإنشاد وبحكم الأغلب لعلقمة بجودة وصفه لفرسه بالكرم، على حين «امرئ القيس وصف فرسه حتى يبدو غير كريم إلى حد أن زوجة»امرئ القيس» وقفت إلى جانب الذين فضلوا وصف « علقمة» ، وهذا نقد جزئي مرتبطاً بالحرفية ومطابقة الصفة للموصوف، لكن :هل السبب تشابه الشاعرين في الفروسية وإجادة الشعر وقوة العضلات»؟.
ربما انضافت إلى هذه العوامل أسباب أخرى تباينية فلعل الإمارة هي التي ألبت على «امرئ القيس»، كما تسببت الشعبية التعاطف مع «علقمة»، لأنه من إحدى القبائل على حين «امرئ القيس» بن الملك «حجر» والشعوب بطبيعتها أميل إلى بنيها من أبناء الإمارات والسلطنات وربما كان للفئوية دخل في تفضيل «علقمة» ابن الشعب على الأمير»امرئ القيس»، ولكن ليس هذا وحده كافياً، وإنما كانت جودة شعر»علقمة» من مسوغات موازنته بامرئ القيس، ولو لم يكن اشعر منه في جملة قصائده فأنه كان متفوقاً على أمثال»حسان» و»المنخل» و»اليشكري».
فهل سوء العلاقة بين «علقمة» و»أمرئ القيس» ناشئة من التشابه الفني والتقارب فيه؟.
إن اختلاف النشأتين عامل أهم فيما كان بين الشاعرين من تنافس حتى أن «امرئ القيس» طلق زوجته بسبب شهادتها لعلقمة الفحل، هذه أبرز ظاهرة في الشعر الجاهلي تكونت من شاعرين ومن التجافي بينهما، ولم يحدث بين شاعرين جاهليين من الخصومات والأحكام كالتي حدثت بين «علقمة» و»امرئ القيس»، حتى غضبت»الخنساء» على « النابغة» لتأخيرها عن «حسان» بسبب أنوثتها فأنها كانت انية ولم تكن فاضلة كالتي قامت بين «علقمة» و»امرئ القيس»، ففرادة هذا الموقف يدل على العدائية الشعبية للتميز الملوكي الذي تمتع به «امرئ القيس».
أما التناقض بين شعراء العهد النبوي والراشدين فقد كان يصدر عن موقفين متصارعين لا دخل فيه لتشابه الشعراء أو تباينهم، لان المسألة اقتتال بين هدى وضلال أما الذين استجابوا لأمزجتهم الفنية خارج المعسكرين فلم يكن بينهم تعادِ أو تصاف ملحوظين، رغم ارتباطهم بعهود شبابهم في الجاهلية: كتميم بن مآبل والحطيئة وأمثالها، أما في العهد الأموي فقد دلت المعارك الهجائية على تعاد بين جرير» و»الفرزدق» و»الأخطل» و»الراعي» فهل مرجع هذا التعادي إلى مذهبية أو قبائلية أو تشابه وتباين بين الشعراء»؟
لقد كان ذلك التهاجي أقرب إلى المزاج الفني أو إلى الترفيه الاجتماعي تحت وطأة الكبت السياسي والقمع الأدبي أيام بني أمية، وربما شجعت السياسة الروائية فن الهجاء لطرافته ولإقبال الجمهور عليه.
مع كل هذا لابد من وجود أسباب كمينة قد ترجع إلى التشابه وما ينتج عنه من محبة او كراهية، ومن الجائز أن يتبدى «جرير» و»الفرزدق» متشابهين مختلفين فكلاهما من قبيلة تميم» والفرزدق من فرع «مجاشع» و»جرير» من فرع «يربوع»: لا يحدث بين الأقارب عداوات أمر من عداوات الاباعد أحيانا!».. فالتشابه بين «جرير» و»الفرزدق» هو الانتماء العشائري وخصومات ذوي القربى، على حين كانا على طرفي نقيض في الصفات النفسية والمذهب السياسي، أتصف «جرير» بالعفة عن النساء وبالغزل الرقيق المثير، واتصف «الفرزدق» بالتهالك على المرأة وبخشونة الغزل، حتى كان يقول:ليت لي على فجوري رقة غزل جرير على عفته»، هاتان نقيضتان، أما المذهب السياسي فلم يكن لجرير أي ميل معروف إلى أحد أحزاب تلك الفترة، وإنما كان شبه منقطع لمدح خلفاء بني أمية، وكان «الفرزدق» يميل إلى التشيع قولاً ويبتعد عن مواقع الاشتباك المسلح ثم مال إلى مسالمة بني أمية والوفاء لآل علي.
فلماذا أبدع التهاجي بين «جرير» و»الفرزدق» اول تجديد في بنية القصيدة العربية.
وهل حررت تلك النقائض الهجائية صوت البغض بين الشاعرين، أم استجابة البيئة لذلك الطراز من الشعر لكي تغلبه على مدح الخلفاء وتقاليد الشعر السياسي.
لا شك أن بين الشاعرين أساسا من الكراهية، ولكنها ليست كراهية الأدنياء وإنما هي عدواة الشرفاء، فعندما سجن «هشام ابن عبدالملك» «الفرزدق» لمدحه»علي بن الحسين» في يوم مشهود كان «جرار» أو متشفع للفرزدق وأحمس المدافعين عنه، حتى إن «هشام» ذكر»جريراً» بفحش «الفرزدق» في هجوه، فلم يزدد «جرير» إلا تمادياً في الشفاعة للفرزدق وطلب الإفراج عنه، وكان هذا الموقف عطر أحاديث الناس، حتى قال»شهاب بن زهير»: إن شرف العداوة أعظم من وفاء الصداقة، لأن المر يرأم صديقه، أما الحنو على العدو فتلك عليا المراتب.
اذن فليس تشابه النشأة والحس الشعري سبب الخصومة بين «جرير» و»الفرزدق» ولا التباين في الوجهة سبباً ايضاً، بل لم تكن هناك خصومة حقيقية، وانما مساجلة فنية أبدعها المزاج الفني ودواعي البيئة، أما «الأخطل» و»الراعي» فقد كان الهجاء بينهما وبين «جرير» بسبب تعصبهما للفرزدق، وبالأخص في مهرجانات «المريد» السنوية.
إذن فليس سبب النقائض العداء المحض أو التنافس بين فرعي قبيلة، وإنما كانت أهم الدواعي البيئية، فهذا البعد في التهاجي ليس بسبب القرب في المنزع ولا في اختلاف مذهبي، فهناك مثلان من نفس العصر عن الاختلاف والاتفاق هما: «الطرماح بن حكيم»، والكميت بن زيد الأسد كان «الطرماح» خارجي المذهب يماني الهوى، وكان «الكميت» متشيعاً وكان بين الشاعرين أصدق مودة رغم اختلاف المذهبين والنزعتين، أما العصور العباسية فكان أهم الاختلاف بين شعرائها بسبب كثرة المدح وكثرة الممدوحين، وبسبب ازدحام المناكب على أبواب الخلفاء والوزراء والقادة والولاة، ولم تكن تلك النفثات الهجائية إلا مزاحاً أو سباقاً على العطايا أو تفريجاً عن الكبوت التي سببها الظلم الاجتماعي، ولم يكن ما جرى من الاعتراك بين «أبي تمام» و»البحتري» من صنع الشاعرين واختلاف طريقتهما البيانية، وإنما من ثمرة اختلاف المدارس الأدبية بين شعر المعاني والبديع وبين شعر العمود العربي، ومن الطريف أن تتكرر صورة الاتفاق عن وجود اختلاف بين «أبي تمام» و»ابن الجهم»، فقد كان «ابو تمام» اميل إلى الاعتزال، والفاطمية، وكان «ابن الجهم» شاعراً عباسياً، ومع هذا أحب «أبو تمام» «ابن الجهم» وامتدحه بقصيدة هي من روائعه:
في فرقة من صاحب لك ماجد
فغدا إذابة كل دمع جامد
وأفصحت القصيدة من لوعة»أبي تمام» لفراق»ابن الجهم» فأشاد بصحبته ومزاياه الخلقية، وضرب في القصيدة أبدع الأمثال في الأخوة الأدبية وانتساب الأدباء إلى أبوة الأدب، غير أن هذه اللوعة التمامية لم تثمر إجابة شعرية من «ابن الجهم» على صاحبه فيما أعلم، حتى بدا للبعض أن يشير إلى عشق «أبي تمام» لان الجهم متجاوزاً اختلاف المذهبين، إذا اطردت قاعدة التشابه والتماثل والتعاكس في التواد والبغض: فهل كان «المتنبي» و»أبو فراس» يصلحان لتطبيق القاعدة؟
كان المتنبي شاعرا فارساً، وكان أبو فراس فارساً شاعراً أميرا، فلماذا لم تتوطد بينهما علائق الإعجاب برغم أن الشاعر في «المتنبي» أقوى والفارس في «أبي فراس» أوفر، ولكن بين الاثنين الفارس الممدوح «سيف الدولة» فتزعم»أبو فراس « حملة العداء على «المتنبي» إلى حد الإسفاف، قيل أن السبب غير أدبي وإنما عائلي، لان «المتنبي» طمح إلى التزوج من «خولة» أخت «سيف الدولة» وأشار إلى هذا في مدائحه لأخيها إذ كان يخلع عليه صفات جمالية هي انعكاس وجدانه بخولة، فغضب «أبو فراس» أن يقتحم ابن سقاء كوفي قصر آل حمدان إذا أثبت هذا تاريخياً فقد يكون أحد الأسباب أما الأسباب الرئيسية فهي عبقرية «المتنبي» التي تفردت بميدان الإبداع وامتلكت كل أعنة عصره، حتى تألب على «المتنبي» أمراء عصره وأدباؤه وحاولوا كلهم التقليل منه والغض من شأنه، بل حاول البعض إسكاته بالقتل كأبي العشائر، ولما عجزت السلطة الأدبية والسياسية عن إسكات المتنبي في حلب، استطاعت أن تلجئه إلى الفرار فدوى صوته من «مصر» حتى زلزل المتأمرين في «حلب»، وفي مصر تألبت على «المتنبي» سياسة «كافور» وحاشيته ومجلس «ابن وكيع» وتلاميذه، وعجز الكل عن إسكاته واقتدروا على حمله لترك مصر، فزلزل المتآمرين بدويه من «الكوفة» وأراد «سيف الدولة» أن يكفر عن خطأ حاشيته وبعض نزواته فحاول استرجاع «المتنبي» إليه ولكن لا يرجع النهر القهقري، وفي الكوفة لاقى المتنبي تنازع الفرق المذهبية عليه، وكان ذلك التنازع الأحمق يعتمد على رجل لا يخاف , من الكوفة رحل المتنبي إلى بغداد ملاقيا العداوات السياسية والأدبية وكانت ثمرة تلك لفترة رسالة الحاتمي «سرقات المتنبي « من أرسطو , كما كان ثمرة إقامته بمصر كتاب ( ابن وكيع ) ( المنصف في سرقات المتنبي ) وقد سمى الأدباء بعد موت المتنبي هذا الكتاب « المجحف « بدلاً من (المنصف ) لسوء تحامل ابن وكيع وجهله , رحل المتنبي من بعداد إلى أرجان وشيراز ولاقى محاولة إسكاته عند ابن العميد وعند (عضد الدولة ) وأخفقت هذه المحاولة كسابقاتها لعجز كل أحد سلب موهبة أحد
لهذا لم يسكت المتنبي إلا بالقتل , وكان هذا السكوت أبلع البلاغات إلى اليوم من كل هذا نفهم أن حملة أبي فراس على المتنبي لا تخلو من كبرياء الأمير على ابن الشعب الذي أمرته عبقريته ,فالاختلاف بين الأمير الحمداني والمتنبي هو اختلاف التعاكس بين ابن حي السقايين في الكوفة وبين سليل القصر الأميري في حلب , أما الآخرون من أدباء وساسة فكانت خصومتهم للمتنبي لأنه نقيض كل عصره , بعد الحمداني والمتنبي تكون الاتفاق والاختلاف بين الشاعر الشريف الرضي وبين الكاتب « أبي إسحاق الصابي « كان الرضي نقيب الأشراف وكان الصابي على دين قومه صابئا ورغم اختلاف الديانتين كان بين الشاعر والكاتب أقوى علائق المحبة لأن الصابي كان أميل إلى السلالة الفاطمية منه إلى السلالة العباسية كما أعربت عن هذا مرثاة الرضي للصابى وكالمودة بين الرضي والصابى كانت المودة نفسها بين مهيار الديلمي والشريف الرضي حتى أن مهيار رأى في موت الشريف الرضي موت النبوغ القرشي كما يبرهن مطلع مرثيته إياه
أقريش لا لفم أراك ولا يد
فتواكلي غاض الندى وخلى الندى
فالتناقض الديني والعرقي سبب حميمية الصلة بين الرضي والصابي من جهة وبين الرضي ومهيار الديلمي من جهة أخرى فقد كان الأدب يعري خفايا النفوس ويبوح عن حقائق القلوب وما يجول فيها من تعاد وتصاف وتصالح بعد خصومة أو تخاصم بعد تصالح , فأرانا كيف أتفق المختلفون واختلف المتفقون وذلك بفضل الحيوية الإبداعية في عالم الأدب ورهافة التطلع إلى الإبداع في عالم الناس , ولما اكتسح الغزو حواضر العرب وتقسمت الدولة إلى دويلات تضاءلت أصالة الأدب نتيجة استعجام سادة القصور فخفت أسباب تنازع الممدوحين بين الشعراء وشاعت الرسائل الإخوانية بين الأدباء وقصائد التهاني والتعازي بين الشعراء نتيجة اختفاء المنافسة وغياب سادة العطايا حتى علل أكثر الشعراء صمتهم بسوء الأحوال وغياب الجمال والعطاء كما قال أحدهم:
قالوا تركت الشعر ؟ قلت ضرورة
فيما الكلام ... وأي باب أطرق
ذهب الكرام .. فلا عظيم يرتجى
منه النوال .. ولا مليح يعشق
وقال كاتب : كيف لا يجف القلم وقد جف زمان الكرم فلا بالمدح يندي يمين ولا بالهجو يندى جبين .
بسبب هذا كانت القصائد الإخوانية بمثابة تحريك لنوازع الشاعرية كما كانت الرسائل الإخوانية استمراراً لعادة الكتابة فلم تعد هناك معركة كمعركة (علقمة ) (وأمرى القيس) أو نقائض هجائية كالفرزدقيات والجريريات أو خصومات أدبية كخصومة المتنبي وأهل عصره أو موازنة كالتي بين الطائيين وإنما كان أدب فترة الانحطاط توليد من التوليد بلا إبداع عن قاعدة فلسفية أو رؤيوية غير أن هذه العصور تميزت بتأليف الموسوعات التاريخية واللغوية كمؤلفات المقريزي وابن خلدون ولسان العرب لابن منظور .. فاحتفظت ببدائع عصور الإبداع حتى تلك الكتب التي تلهي بعض مؤلفي تلك الفترة بما أسموه تلخيصاً تهذيباً أو شرحاً للمشروح وكانت الحيوية الشعرية في اليمن أقرب إلى منابع الإبداع ولو لم تسلم من التصنع البديعى ومن التراسل الإخواني كالتي كانت بين الهبل المخلافي في القرن السابع عشر , ومن قبلهما كانت رسائل الهادي بن إبراهيم الوزير وقصائده تتجه إلى السنيين لإقناعهم بما فيهم أخوه محمد بن إبراهيم فالفترة التتارية والصليبية والتركية كانت فترة تضاؤل الإبداع وتجنيس التوليد واستجماع مخلفات الأوائل لأن الخصومات المذهبية السياسية في العهد الفاطمي والذي تلاه لم تجنح إلى الدعوات الشعرية إلا لمدح رؤساء المذاهب لا لفلسفة المذهب لان هناك مختصين من الدعاة المحجوبين لتفسير الفلسفات الخاصة وإبداء الظواهر العامة على سائر الناس لكي لا يشهدوا خروجا عن المعهود من حكم الأسلاف .
لهذا سادت القصائد الإخوانية وأمتد أثرها وتأثيرها إلى عهد النهضة وكان المع نماذج الأخوة : شوقي وحافظ , ثم الزبيري والموشكي .. ولعل علائق الود بين شوقي وحافظ من أطرف وأوثق العلائق الأدبية رغم اختلاف نشأة الشاعرين إذ كان شوقي تركي الهوى خديوى المربى على حد قوله:
الخون إسماعيل في أبنائه
ولقد ولدت بباب إسماعيلا
أما حافظ فنشأ نشأة الفقر تحت رعاية عمه وأدت به هذه النشأة إلى احتراف العسكرية والشعر معاً ثم انقطع عن العسكرية والتزم الشعر أما شوقي فتعلم التعليم النظامي تظله رعاية القصر وتنمو فيه محبة الأدب كان شوقي أرستقراطياً , وكان حافظ شعبياً كان شوقي مثقفاً عن تعليم وكان حافظ مثقفاً بالجهد الذاتي وبرواية الشعر بصفة أخص وعلى هذا الاختلاف في المنشأ وفي المعيشة والثقافة أقترن اسم شوقي باسم حافظ فلا يذكر أحدهما بدون الأخر كما قال الدكتور طه حسين في كتابه (شوقي وحافظ) وهذا أهم كتاب وازن بين الشاعرين وطبقيتهما وثقافتهما ومستواهما الشعري كان شوقي مثقفاً مستوعباً للثقافة الفرعونية والثقافة الإسلامية بما فى الثقافتين من مذاهب دينية وأدبية وفلسفية , أما حافظ فكان ذاكرة شعرية كالبارودي )) كل هذا التعاكس أدى إلى التطابق في تاريخ المودة بين شوقي وحافظ فعندما انعقدت لشوقي إمارة الشعر كان حافظ أول مؤيدي هذه الدعوة وأعلى أصوات الإشادة بها كما تدل قصيدته في تلك المناسبة :
أمير القوافي قد أتيت مبايعاً
وهذه جموع الشرق قد بايعت معي
وعندما نُفى شوقي إلى الأندلس أرسل هذه المقطوعة إلى حافظ
يا ساكنى مصر إنا لا نزال على
عهد الوفاء , وإن غبنا مقيمينا
هلا بعتم لنا من ماء نهركمو
شيئاً نبل به أحشاء صادينا
كل المناهل دون النيل أسنة
ما ابعد النيل إلا عن أمانينا
فرد حافظ على شوقي بمقطوعة مماثلة :
عجبت للنيل يدري أن بلبله
صاد ويسقى ربا مصر ويسقينا
والله ما طاب للأصحاب مورده
ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا
لم تنأ عنه وأن فارقت شاطئه
وقد نأينا وأن كنا مقيمينا
وبعد عودة شوقي من المنفى حيا حافظ قدومه بقصيدة عامرة بالفرح والحب
ورد الكنانة عبقري زمانه
فتفيئي يا مصر من أفنانه
ولأن الحب لا يخلو من بغض : إما منعكساً عن حب ,أو عن دواع تخلقها طبيعة الخلطة , قامت بين الشاعرين جفوة قصيرة الأمد ولم تؤد إلا إلى أقل اللمحات الهجائية المغلقة قال حافظ:
يقولون أن الشوق نار ولوعة
فما بال شوقي أصبح اليوم باردا
ولأن هذا الهجوم غير صريح رد شوقي بمثله مستخدماً التمثيل لا المباشرة كما يقول البيت :
وأودعت إنسانا وكلباً وديعة
فضيعها الإنسان والكلب حافظ
فكلا الشاعرين حرص على استبقاء الود بدليل هذا التلميح المغلف في هذا الهجاء الذي لم يتجاوز البيتين عند الشاعرين وفي عام 32 سبق حافظ رفيقه إلى الموت بشهور فرثى شوقي حافظاً أحر رثاء متمنياُ لو سبق حافظاً إلى مورد الموت:
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي
يا منصف الموتى من الأحياء
فقد عاش الشاعران على أوثق علاقة رغم اختلاف نشأتهما و وجهتهما إذ كان حافظ معجباً بالشيخ محمد عبده مكثراً من مديحه ,مطنباً في رثائه , على حين كان شوقي غير تابع للشيخ محمد عبده حتى أنه لم يرثه الا بثلاثة أبيات :
فهل التعاكس في المنشأ والوجهة سبب علائق الوفاق بين شوقي وحافظ.
لقد كانت هناك علائق أخرى فكلا الشاعرين تغنى بالوطن ودعا إلى نهضته وقاوم الاحتلال الانجليزي ولعل تلك الفترة كانت تكون من أسباب الود بأدنى قاسم مشترك لأنها كانت مبكرة عن عهد صراع الأفكار والاقتتال الطبقي , ولعل القصائد الإخوانية التي تجلت فيها كانت امتداداً للأدب الإخواني الذي ساد في العصور الفاطمية والأيوبية والتركية وأن كان في شعر حافظ وشوقي أقوى انتماء من ناحية الشعر إلى القرنين الثالث والرابع الهجري وربما كانت مراسلة الزبيري والموشكي من إفراز ظروف الشاعرين ومن الاقتداء الأدبي بشوقي وحافظ , غير أن التدوين لم يحتفظ بغير قصيدة الزبيري التي رد فيها على قصيدة الموشكي وهي بعنوان إلى الشهيد الموشكي ولعل هذا العنوان كتب أبان طباعة الديوان لأن الزبيري أرسل قصيدته جواباً على قصيدة الموشكي قبل استشهاد الموشكي , وأغلب قصيدة الزبيري ثناء على شعر الموشكي :
أمزنة الخلد , أم رشح العناقيد
أم كوثر من ثنايا الخرد الخود
وتمتد القصيدة لتفصل أوصاف شعر الموشكي بطريقة تقليدية ولا تخرج عن تقليد الأوائل إلا في أبيات قليلة دعت إلى يقظة الشباب وأشارت إلى سوء تلك الظروف وهذه الزبيرية المدونة تشير إلى أن بين الزبيري والموشكي تراسل شعري يشبه التراسل النثري الشعري بين نعمان والزبيري – وربما كان نعمان والزبيري أقرب شبها بشوقي وحافظ مع فارق واحدية النضال بين الزعيمين اليمنيين واختلاف نضالهما المباشر عن النضال الشعري عند شوقي وحافظ فبين الزبيري ونعمان تقارب في النزوع وتقارب في الغايات الوطنية وفي النشأة الفقهية على اختلاف المذهبين فعلاقة الود بينهما بفعل التجالس السياسي لا بفعل التعاكس كالتي بين الرضي و الصابي والتناقض الطبقي الذي بين شوقي وحافظ , ولا شك أن الزبيري ونعمان نشأ في فجر النضال الوطني فوحدت القضية دربهما كما أكدت علائق الود , دون أن يكون السبب هو التشابه في المزاجين أو في التركيب النفسي أو الجسدي فلا يمكن أن تصلح المسالة الفرويدية نظرية نفسية مطرده في عصر النضال الوطني وفى اختلاف النظريات إلى الوطنية وأي الوسائل أهدى إلى تقدم الوطن ؟
أن هذه الجولة في تاريخ العلاقات الادبية تكشف التطور التاريخي وتبرز الفروق بين المكونات النفسية القديمة وبين المكونات النفسية المعاصرة فبعد شوقي وحافظ والزبيري والموشكي , حلت المدارس واختلافاتها محل التعاكس بين الأفراد والتطابق بين صفاتهم ومكوناتها .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.