عسير والوجود المصري كما اسلفنا بأن الخديوي اسماعيل أتبع سياسة الحوار والحيلة والوعود المغرية مع ثوار عسير والنصح والوساطة لفض مشكلة عسير ودياً وبدون إراقة دماء وتآلف أمير عسير محمد بن عائض بذكاء وصبر واقنع ابن عائض حتى يخلد للهدوء والسكينة ويحترم سيادة الدولة العثمانية وحذره من عاقبة تماديه في هذا العصيان وكان الخديوي إسماعيل يقدم وعوداً سخية لأمير عسير فيعده لا بالعفوا عنه فحسب بتعديل حدود إمارته وتغيير إسمها تبعاً لذلك , وإنما بالإنعام عليه بالبا شوية . ويدل رضوخ أمير عسير لمساعي مصر على مكانتها في اليمن وطالبت مصر الباب العالي بتنفيذ ماوعدت به أمير عسير حتى لا تحرج معه وحتى لا تتجدد ثورة العسريين مرة اخرى هذا ولقد بقيت القوات المصرية في الجزيرة العربية فترة من الزمن عقب حل مشكلة عسير, وذلك تلبية لرغبة الباب العالي الذي كان يخاف من تجدد الأزمة مرة أخرى . وفي يناير 1866م انسحبت القوات المصرية بعد أن قضت حوالي سنتين دون الدخول في حرب أو قتال مع محمد بن عائض والجدير بالذكر أن الوالي المصري قد قام بإرسال التهاني إلى محمد باشا بن عائض قائمقام سنجق العزيزية اليمانية في عام 1866م بمناسبة تسوية النزاع بينه وبين الدولة العثمانية كما بشره بوفاء الباب العالي بالوعود التي وعده بها في أثناء قيامه بالوساطة بينهما غير أنه لم تمض فترة طويلة من الوقت حتى ظهرت بوادر واستعدادات أمير عسير العسكرية , وتحركاته لتحقيق أهدافه التوسعية على حساب النفوذ العثماني في اليمن . وعند ذلك كتب اليه خديوي مصر إسماعيل باشا في سنة 1868م محذراً إياه من نتائج العودة إلى العصيان من جديد , موضحاً أيضاً أن مثل هذا التجاوز سيؤثر في صلات الود والصداقة بينهما , وأنه قد يضطر يوماً ما أن يوجه إلى عسير قوة لإيقاف هذا العدوان , هذا ولقد أبدى أمير عسير لخديوي مصر اعتزازه بصلات الود والصداقة مع الحكومة المصرية موضحاً أن الحساد يحسدونه على ما بينه وبين مصر من صداقة وود. وفي نفس الوقت كان أمير عسير يعد العدة لتحقيق آماله في التوسع وطرد العثمانيين من المخلاف السليماني وتهامة وإخضاعهم لحكمة.. ولقد خشيت الحكومة من أن يساء تأويل موقفها من أمير عسير لدى الباب العالي فلذلك قام بإرسال ممثلها لدى الباب العالي ليوضح حقيقة موقفها , وكان ذلك في 14مايو1867م.. على كل فقد تمكن الأتراك من السيطرة على عسير وبلاد المخلاف السليماني وضموها إلى المنطقة التي خضعت لنفوذهم في تهامة , وعلى الرغم من أن هذه البلاد قد خضعت للإدارة التركية إلا أنها لم تعرف الاستقرار النسبي الذي شهدته في ظل تواجد القوات المصرية بعسير مدة العامين التي تواجدت فيها القوات المصرية . لقد كان البريطانيون يدركون أن الخديوي حين قبل التدخل في الحجاز واليمن إنما كان يخدم مصالحه الشخصية وليس لخدمة العثمانيين ولقد أكد الوكيل البريطاني في جدة أنه عثر على أدلة واضحة تدين خديوي مصر إسماعيل باشا بالتآمر ضد الوجود التركي في بلاد العرب وأن الخديوي كان يشجع أمير عسير على مهاجمة المناطق اليمنية المجاورة في تهامة , وحيث توجد الحامية التركية على سواحل اليمن المطلة على البحر الأحمر , وبينما كان الخديوي يسعى للسيطرة على البلاد مما جعله يرسل ثلاثين الف جندي لتحقيق هذا الهدف لأن الحجاز واليمن كان يعيش فيهما أكثر من عشرة آلاف مواطن هندي معظمهم من التجار فقد أراد البريطانيون أن يستغلوا ذلك سبباً للتدخل في شؤون المنطقة مما جعل ساند وسون الوكيل البريطاني في جدة يقترح على حكومته اتخاذ التدابير اللازمة لحماية هؤلاء الرعايا ورعاية مصالحهم غير أن الدوائر المسؤولة في وزارة خارجية لندن لم تستمع للاقتراحات التي بعث بها ساندوسون . وربما قد خشيت من أن تنشر أخبار تدخلها وتتضخم لدى الدوائر السياسية الأوربية المنافسة لها فيثار انتباهها وغيرتها. هذا ونلاحظ أن موقف بريطانيا في عدن تجاه أحداث منطقة عسير في تلك الفترة كان موقف المراقب غير أن البريطانيين كانوا يتوجسون خيفة من تدخل مصر في حسم تلك النزاعات التي كانت فعلاً فرصة متاحة لمصر إذ ارادت أن تتشبث بالمنطقة لولا اعتبارات قد منعتها من ذلك وأهمها فرمان الوراثة كما أن بريطانيا سبق وأن ذكرت أنها لا تود التدخل في تلك الأحداث خوفاً من اثارة غيرة الدول الأخرى وإتاحة فرصة لها للمنافسة . بفتح قناة السويس للملاحة الدولية في عام 1869م تغيرت الكثير من الأوضاع في البحر الأحمر بصورة عامة بسبب تهافت الدول الاستعمارية كل على حدة , ولكن كما هو واضح لدينا أن الدولة المسيطرة في تلك الفترة هي الدولة العثمانية بسيادتها على المنطقة , والتي دأبت على تأكيدها عقب افتتاح قناة السويس والقوة الأخرى هي بريطانيا التي أوجدت لنفسها قاعدة على مدخل البحر الأحمر واستطاعت أن تثبت وجودها الفعلي في المنطقة والذي اصبح يتأكد مع مرور الأيام , وخاصة بعد افتتاح القناة. أما بالنسبة للعثمانيين فقد ساعدت الخديوية المصرية كثيراً على إرساء قاعدة الحكم العثماني بتدخلاتها المتكررة في إخماد ثورات الجزيرة العربية ابتداءً من الوهابيين , وانتهاء بالعسيريين .. ولقد جاءت ثورة عسير في وقت كانت الرغبة الجامحة في فرض السيطرة الفعلية على المنطقة تملأصدور العثمانيين , وكان لهم ما أرادوا حين تمكنوا بمساعدة مصرفي إدخال تلك المناطق إلى نفوذهم الفعلي . إلا أنه وكما أجمع العديد من المؤرخين أن التكوين القبلي والنظام الاجتماعي السائد في منطقة الجزيرة العربية , يجعل من الصعب على أية جهة مهما كانت قوتها أن تسيطر على تلك المناطق ككل , وحتى إذا تمكنت لن يدوم ذلك طويلاً فهم بطبيعتهم ميالون للنزاعات فيما بينهم وكارهون لأي حكم أجنبي دخيل.