تقف في شرفتها في الدور الثالث، يدور في خلدها سؤال حيرها لفترات طويلة.. تطرحه على نفسها ولا تنتظر منها إجابة، لكنها الآن حريصة على إيجاد جواب له، كحرصها على الوقوف في شرفتها المطلة على "حافة الهاشمي" في " الشيخ عثمان" أشهر مناطق مدينة عدن، وأكثرها ازدحاماً بالسكان، لتتغلب على شعورها القاتل بالوحدة، تقضي فيها جل نهارها ترقب فيها كل ما يحدث في الشارع الذي تدب في أوصاله حياة صاخبة حتى منتصف الليل، مكتفياً معها بهدوء الساعات القليلة التي تستمر حتى بزوغ الفجر. لأحيان كثيرة تتمنى لو أن كل المارة في الشارع ينظرون للأعلى تحديداً إلى شرفتها يبادلونها؛ وتبادلهم التحية حتى ولو مجرد ابتسامة فإنها تعني لها الكثير.. "ما الذي جعل الناس هكذا.. ينظرون إلى الأسفل يبتلعون خطواتهم بشراهة..؟" تبحث عن إجابة لهذا السؤال بعد أن ملت تتبع ما يحدث في معظم أجزاء الشارع. ألفت وجوه العاطلين عن العمل، وكبار السن في قهوة العم قاسم، وتمكنت من كشف سر السيارات الفارهة التي تتناوب على عطارة العم محمد؛ ليزودها بوصفات لأعشاب مختلفة تعيد الشباب وتزيل العقم… "لماذا يهرول هؤلاء الناس أما من أحد ينظر للأعلى ولو خطفة" تعلم أن الزمن تغير، وأن التسوق في مكان يسري في شرايينه البشر دون توقف والتسكع اللذيذ على أرصفة المحلات، والتقاط الأنفاس تحت ظل الأشجار، وتبادل التحية مع الجالسين في شرفاتهم أو حتى فوق أسطح منازلهم، لم يعد يدخل البهجة على القلوب، أو حتى يزيل عنها هموم الحياة مهما كانت، كالسابق، لهذا تتمنى فقط لو تنتشر نظراتهم في كل مكان في الشارع، في أركانه ومحلاته، في منازله وشرفاته.. علاقتها الطيبة بجيرانها جعلتهم يحترمون رغبتها في الانسحاب عندما تنتابها نوبات حزن بين حين وآخر، تتذكر فيها زوجها الذي توفي منذ خمسة أعوام وولديها الذين أصبحت زيارتهما لها قصيرة ومتباعدة حتى ولو أبديا رغبتهما الشديدة لعيشها في منزل أحدهما. الأطفال فقط يبادلونها التحية وهم يلعبون "جاري جمل" اللعبة المفضلة في الشيخ عثمان تعود معهم وربما بهم إلى ذكريات عائلتها الصغيرة التي كانت كل حياتها وتشعر بالأسى الآن وهي تستجدي نظرات المارة إلى شرفتها، تعلم جيداً أن ابتساماتها التي قررت إهداءها إياهم لو قرروا النظر لأعلى لن توازي بياض السحاب وزرقة السماء التي ستزيل عنهم بعض وربما كل البؤس الذي يكسو وجوههم، وستنعش في نفوسهم ما شارف على الذبول.. وربما الموت، لكن هذا هو كل ما تستطيع منحهم إياه، ابتسامتها والوردة التي عادة ما تسقط سهوا من شرفتها إلى الشارع؛ تجتذب الانتباه الذي يدهسه المارة كما دهسوا بأقدامهم وروداً غيرها.. رؤوسهم منكسة للأسفل يبتلعون خطواتهم بنهم. نهم يضحي الجميع من أجله بالنظر لأعلى..