مثل انتعاش الأوضاع الصحية في اليمن واحدا من أبرز مكاسب ثورة ال(26) من سبتمبر بعد أن عاش اليمنيون ردحا طويلا مكبلين بأغلال الجهل والفقر الذي أوثقت به الإمامة اليمن وجعلته مرتعا خصبا لانتشار الأوبئة والأمراض دون أن توفر أدنى وسائل الاستعداد لمواجهة الأمراض المتفشية مما كان يتسبب بوفاة الكثير من الأرواح التي كان بالإمكان معالجتها ببساطة. د. محمد عبدالودود أول طبيب من أبناء اليمن يصل إلى أرض الوطن بعد الثورة وأول طبيب يتولى وزارة الصحة التي تولاها ثلاث مرات في حكومات مختلفة يحكي ل «الحمهورية» صعوبة الأوضاع التي كان يعاني منها القطاع الصحي في بداية عهد الثورة ويتحدث عن وقائع مأساوية ومآزق إنسانية عايشها كطبيب بسبب قلة الإمكانيات. لايوجد طبيب كيف كان الوضع الصحي في اليمن قبل ثورة (26)من سبتمبر(1962)م؟ لم يكن هناك خدمات صحية وكل ما كان موجوداً هو عبارة عن ثلاثة مرافق في عواصم بعض المحافظات وهي صنعاءوتعز والحديدة وكانت عبارة عن مبان قديمة تفتقر للتجهيزات الطبية المناسبة والطواقم العاملة فيها هم من الأطباء والممرضين الأجانب حيث لم يكن لدينا أي مدارس لتخريج كوادر مهنية وفنية ،بل إن اليمن قبل الثورة كانت تنعدم فيها المدارس النظامية وكان الناس يعتمدون في تعليمهم على الكتاتيب "المعلامة " وكان من حظنا أن استفدنا من الفرص القليلة التي كانت متاحة والتحقنا بمدارس تعليم نظامي كانت موجودة في عدن . أوضاع سيئة للغاية وعندما وصلت إلى أرض الوطن في منتصف سنة (1964)م بعد تخرجي من الجامعة ،فوجئت بأني أول طبيب يمني يصل إلى الجمهورية العربية اليمنية وقد عرفت هذا الكلام من الأستاذ حسين المقدمي الذي كان وزيراً للصحة حينها وقد حصل لي حفل استقبال كأول طبيب يمني. بيئة خصبة للأمراض يتقدم لإجراءات التوظيف في وزارة الصحة وبرغم أن التوظيف أوقف بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي كانت تمر بها البلد إلا أن توظيفي تم وقد بدأت العمل في تعز . وكان الوضع في المستشفيات صعبا جداً،وكان هناك الكثير من النواقص أهمها نقص الكادر سواء كانوا أطباء أو ممرضين وقد كانت الأوضاع الصحية سيئة للغاية؛ نتيجة لظروف التخلف والجهل والفقر وسوء التغذية ومشاكل المياه وانعدام الصرف الصحي وطبيعة الظروف المعيشية وغيرها من العوامل التي تمثل بيئة خصبة للأمراض . وفيات الأطفال 50 ٪ كم كان حجم إقبال الناس للحصول على الخدمات الطبية ، مع الأخذ بعين الاعتبار تدني مستوى الوعي لدى العامة؟ كان هناك طوابير من الناس يأتون إلى المستشفيات بحثاً عن الطبيب وكنا نحن نضطر أحياناً للعمل على مدار (24)ساعة متواصلة وكان الناس يعانون من أمراض مختلفة كثيرة ونسبة الوفيات بين الأطفال كانت مرتفعة جداً تقدر (%50) بسبب أمراض الأطفال فلم يكن هناك أي لقاحات إلى أن جاءت بعد ذلك البعثات السويدية والمستشفى السويدي والذي كان يغطي عددا قليلا من الناس داخل مدينة تعز والأرياف القريبة منها ، لكن اليمن كلها لم يكن فيها أي تطعيم ،وكانت الأمراض المعدية تنتشر في مواسم مختلفة مثل الإسهالات وتتسبب بحدوث وفيات مرتفعة بين الأطفال ،كما أن نسبة الوفيات بين النساء كانت مرتفعة بسبب الولادة التي كانت تحدث على أيدي أمهات لايعرفن الطرق الصحيحة للتوليد ،إلى جانب أمراض ال(تي. بي) التي كانت منتشرة وبدئت مكافحتها بعد الثورة ، حيث بدأ العمل على مشاريع لمكافحة الأمراض ونشر التوعية . وكان عدد الأسرة قليلا جداً لايتجاوز المئات في صنعاءوتعز والحديدة لكن الآن الفرق كبير . طبيب لكل شيء كيف واجهتم هذه الصعوبات في بداية عملكم؟ كان هناك نقص كبير في الأدوية ،والإدارة ، فالعمل في مجال الطب يحتاج الى دعم وإلى تخصصات ،وكان على الطبيب أن يعمل كل شيء ،ويعالج كل الأمراض خارج تخصصاته ويقوم بعض الأحيان بإجراء عمليات جراحية بسيطة ويعالج الأطفال والمسنين ويعالج المصابين في الحوادث بل إن الحال كان يصل إلى أنه كان على الطبيب أن يضع القطرات لمرضى التهابات العيون. . كان على الطبيب الواحد أن يكون مؤسسة طبية وحده نظراً لغياب التخصصات وقلة عدد الأطباء وفي الستينيات والسبعينيات لم يكن هناك سوى عدد قليل من الأطباء لايتجاوزوا العشرات بالإضافة لعدد قليل من الأطباء الذين كانوا يأتون من دول شقيقة وصديقة بينما مشاكل المرض في البلد كانت تستدعي وجود عدد كبير من الأطباء الى جانب أن التجهيزات والمعدات التشخيصية كانت غير متوفرة فجهاز الأشعة كان عبارة عن جهاز بدائي لايفي بالغرض أما الفحوصات المخبرية فقد كانت تقتصر على بعض الفحوصات البسيطة ولا وجود للفحوصات الكيميائية التي تكشف عن وجود الأمراض والهرمونات ، وكان التشخيص يعتمد على حس وخبرة الطبيب ،بل إنه حتى لم يكن لدينا أمصال لتحليل نوعية الدم وكان هناك أناس ينزفون حتى الموت بسبب غياب هذه الأمصال .. وكان هذا يحدث بعيد الثورة حيث كان الناس مشغولين بحرب الدفاع عن الثورة والجمهورية ،وعندما استتب الأمن بدأ الناس يفكرون بأشياء أخرى، لكنها أشياء كانت تجيء بشكل بسيط متواضع بحسب إمكانية البلد وبحسب إمكانية تفكير الإدارة التي كانت مسئولة عن المجال الصحي والتي كان وعيها محدوداً مما أدى الى حدوث التقدم بشكل بطيء في قطاع الصحة . وزير يعرف أين الوجع! توليتم مسئولية وزارة الصحة في العام (68)م وعدتم إليها مرتين بعد ذلك ،ما هي الأولويات التي كانت تتصدر اهتمامكم في تلك المرحلة؟ طبعاً من خلال عملنا تعرفنا على الكثير من المشاكل والسلبيات خصوصاً إذا كنت دارساً في بلد متقدم وعرفت هناك الطب والإمكانيات التي يسير فيها الوضع الصحي في تلك البلاد وعندما جئت إلى الوطن كانت الظروف صعبة للغاية لذلك عندما توليت وزارة الصحة بدأت في تلمس الاحتياجات التي كنا نشكو منها والمتطلبات التي يجب توفيرها وقد بدأت أول الأمر في تحسين وتطوير ألإدارة حيث لم يكن هناك إدارة متخصصة في المرافق الصحية،وكان المسئولون عن إدارة المرافق الصحية هم عبارة عن موظفين لا علاقة لهم بالجوانب الفنية وتم تعيين بعض الأطباء والفنيين في بعض المرافق داخل المستشفيات إضافة إلى توفير بعض النواقص في التجهيزات والمعدات وقد تمكنا بهذا الخصوص من عمل الدراسات الخاصة بإنشاء مختبر الصحة المركزي وبنك الدم والتي تمت عبر منظمة الصحة العالمية وبعض الدول الشقيقة وخاصة الكويت على أن يتم عمل فروع لهذا المختبر لاحقاً في بقية المحافظات ،وعملنا على إرسال بعض الفنيين للخارج بغرض التدريب وإرسال لأطباء في منح دراسية وزيادة بعثات الطلاب في مجال الطب . وهذه كانت بعضاً من الأفكار والجهود الي تعلمناها من خلال التجربة وقد توفقنا في بعض الأشياء وجاء آخرون من بعدنا وواصلوا المسير وحققوا الكثير من المنجزات حدث تطور كبير جدا وكيف تقيمون مستوى الإنجاز في الجانب الصحي ؟ لم يكن يوجد في اليمن خدمات طبية نهائيا، الآن يوجد مستشفيات ويوجد كوادر طبية متخصصة وتجهيزات طبية تشخيصية , وطبعا تطورت الخدمات الصحية تطورا كبيرا جدا وأصبح اليمنيون يجرون عمليات جراحية كبيرة ومعقدة، سابقا كان الناس يسافرون إلى أسمرة؛ لإجراء عملية الزائدة قبل الثورة, وحتى بعد الثورة كان الناس يسافرون إلى القاهرة وغيرها من أجل إجراء عمليات بسيطة، أما الآن فقد حدث تطور وتوسعت الخدمات الصحية في البلد على المستوى الأفقي والرأسي وأصبح لدينا تخصصات في مجال جراحة المخ والأعصاب والقلب والكلا وجراحة العظام.. ولكن تظل هناك مشكلات الإدارة فهي لازالت تحتاج إلى تحسين؛ لكي تتطور الخدمات الصحية أكثر ونصل إلى مستوى أننا قادرون على حل مشاكلنا دون السفر إلى الخارج من أجل العلاج, فالنفقات التي نصرفها على العلاج كبيره سواء من جانب الدولة أو من قبل المواطنين .