تمهيد: إن من أهداف الثورة الشبابية الشعبية السلمية التي تشهدها الساحة اليمنية, بناء الدولة المدنية, وهي جزءٌ لا يتجزءَ من مجموعة أهداف يتمسك بها شباب الثورة اليمنية في ساحات التغيير والحرية, والتي حافظت وتحافظ على سلمية الثورة في إسقاط النظام, والمساهمة في بناء الدولة اليمنية المدنية الحديثة. وتتبنى في ذات الوقت الأسس العلمية في هيكلة الدولة المدنية المستقبلية بما تحقق الحقوق المتساوية لكافة أبناء الوطن اليمني. الذي تنتفى فيه سيطرة الجماعات والأفراد والحزب الواحد, وكذا الأجهزة الأمنية في منح حقوق المواطنة وصكوك الغفران لأي فرد من أفراد المجتمع اليمني. لقد مرت اليمن بحالة من عدم الاستقرار والصراع الداخلي بين السلطة والمواطن, منذ خروج الأتراك من اليمن, فالسلطة على مر هذه الفترة تميل إلى ممارسة الاستبداد والتفرد بالسلطة والمال, بتركيزها بيد الحاكم الفرد أو الجماعة الحاكمة, بينما المواطن ظل يرفض سلطة الاستبداد والطغيان ويطالب بحق المواطنة المتساوية بين جميع أفراد المجتمع بكل فئاته وشرائحه المختلفة. وعلى مر هذه الفترة من تاريخنا المعاصر, أجهضت السلطة الاستبدادية بشدة قمعها مشاريع عدة قبل أن ترى النور بما في ذلك مشروع ثورة 26سبيمبر والذي أجهضته حركة 5 نوفمبر 1967م, بتسلط القوى التقليدية على مقاليد الأمور السياسية والأمنية والتشريعية والقضائية مما أدى إلى إجهاض المشروع المدني والمواطنة المتساوية وتأسيس دولة المؤسسات. لكن ثورة 14 اكتوبر وان حققت بعض من الانجازات المتقدمة في هذا الجانب إلا أن احتكار السلطة بيد جماعة محددة لها من التوجه الإيديولوجي ما جعلها تحاول إخضاع الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للنظرية الأيديولوجية مما حال بينها وبين تحقيق المواطنة المتساوية كما أسقطت الحماية والمحافظة على الاستمرارية والتثبت لقيم المواطنة المتساوية التي حققتها ثورة اكتوبر بحيث تصبح متجذرة يحافظ عليها كل أبناء الوطن لمشاركتهم في صنعها, كما أن انعدام الديمقراطية عمل على إلغاء صفة المشاركة الجماهيرية في تأسيس وإرساء مبادئ المواطنة المتساوية والحقوق لذلك لم يحافظ عليها الشعب أيضا أو يكترث لأمرها. لكن تحول الصراع بعد اتفاقية الوحدة من صراع بين السلطة والمواطن الذي كان سائدا في الفترة الماضية الى صراع بين أطراف النخب الحاكمة ذاتها, أو لنقول بين طرفي أصحاب المصالح من النخبة الحاكمة بين الفئة الاستبدادية المتسلطة في الحكم والتي تنزع نحو الاستئثار بالسلطة وتبعاتها والفئة الساعية لإرساء مؤسسات دولة يمكن لها أن تسود حتى في ظل وجود الفئة المستبدة لتدير المواطن وفق آلياتها الاستبدادية, الأمر الذي لم يقبل من قبل مجموعة من أفراد النخبة الحاكمة المستمرئة في عمليات الاستبداد خلال المرحلة السابقة لتسقط هذا المشروع المشوه الهادف لتحقيق جزءا يسيرا من حقوق المواطنة المتساوية أمام سيطرة سلطة الاستبداد والتسلط في علاقته بالمواطن. ومن ثم عاد الصراع مرة اخرى إلى قالبه السابق (بين السلطة والمواطن) يشتد أحيانا ويخفت أحيانا اخرى في تناسب مع رفض السلطة الاستجابة لهذه المطالب كامتداد للرفض السلطوي السابق على مدى الفترة التاريخية للصراع. ونلخص الأهداف والرؤى لمجمل قضايا الدولة المدنية المنشودة, بالأتي: ماهية الدولة المدنية: يشار إلى أن الدولة تضمن "سلامة الشعب هي السنّة العليا، مبدأ عادل أساسي لا يضِّل مَن أخذ به بأمانة قط". ويجب أن تهدف "القوانين إلى غرض واحد، هو خير الشعب ... ولا يحق للسلطة التشريعية ولا ينبغي لها أن تُسَلم صلاحية وضع القوانين لأية هيئة أخرى أو تضعها في غير الموضع الذي وضعها الشعب فيه قط". من هذا المنطلق تكون مهمة الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية المحافظة على كل أفراد المجتمع بغض النظر عن القومية والدين والسلالة والجنس والفكر. فهي تضمن حقوق وحريات جميع المواطنين باعتبارها دولةَ مواطنة متساوية، تقوم على قاعدة ديمقراطية هي المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات, وعليه فالمواطنون لهم حقوق يتمتعون بها، مقابل واجباتٍ رديفة. وهذه المواطنة المتساوية لصيقةٌ كليا بالدولة المدنية، فلا دولة مدنية بدون مواطنة متساوية، ولا مواطنة متساوية بدون دولة مدنية. وعليه فالمواطنة لا تتحقق إلا في دولة مدنية ديمقراطية تعددية دستورية تصون كرامة المواطن وقناعاته في ممارسة معتقداته وأفكاره بالشكل الذي يؤمن بها في إطار الدستور الذي أقره الشعب. وهذا الدستور يحترم كافة حقوق المواطن بشكل يوفر له العيش الكريم. فإذا لمس المواطن هذه المساواة في الحقوق التي يضمنها الدستور، فذلك يعني انعدام التمييز بين المواطنين لأي سبب كان, صغيرا أو كبيرا أو لجنسه (ذكورا أو إناثا) أو لمركز اجتماعي أغنياء أو فقراء، أو لدورهم السياسي رؤساء أو مرؤوسين، أو لفكرهم يساري أو يميني، أو عقيدة أو مذهب. علاقة المواطن بالدولة: مما تقدم نجد إن أسس الدولة المدنية, يتلخص في مبدأ تساوي جميع أبناء الوطن في الحقوق والواجبات, أمام الدستور والقانون وتلك هي أساس بناء المؤسسات في الدولة المدنية الديمقراطية، وأساس هذه العلاقة هي ممارسة الحقوق والواجبات بحرية، وحماية مصالح المواطنين التي تعتبر نواة مصالح المجتمع والدولة. فبدون حرية لا يمكن صيانة حقوق المواطنين، وبدون حرية لا يمكن للمواطنين القيام بواجباتهم تجاه الدولة. فالتفاهم والاحترام يؤديان إلى الالتزام ويضمن الدستور المواطنة المتساوية في الدولة المدنية، لحماية هذه المواطنة ومتطلباتها وتفعيلها في الممارسة العملية وليس مجرد قاعدة قانونية. فديمومة المواطنة والمشاعر الوطنية المخلصة تجاه الدولة تتعمق في ديمومة الدولة المدنية ليس فقط في الحرية السياسية وإنما في الديمقراطية والعلاقة، لأن المواطنة لا تتحقق في الدولة الدكتاتورية أو الدولة الاستبدادية التي قاعدتها القمع بدلا من المواطنة، حتى وإن وُجِدت الحرية السياسية، طالما أن تلك الحرية تنسف المواطنة وتُلغي دور المواطن في بناء المؤسسات الديمقراطية المدنية كما هو الحال في اليمن. فالدولة المدنية مستقبلا ضمان حقيقي للمواطنة المتساوية لعموم الأفراد في الحقوق والواجبات دون انتقاص تحت طائلة التبريرات الواهية. آمال مستقبلية لثورتنا السلمية: الدولة المدنية الدستورية لا تكون إلاّ في الأجواء الديمقراطية الليبرالية والحرية. فهي ليست تعبيرا عن إرادة وراثية أو عشائرية أو سلطوية فردية أو حزبية أو مذهبية، إنما تعبير عن إرادة الشعب صانع الدستور. وما السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلاّ تعبيرا عن إرادة الشعب وممثلا عن صوته. فالدولة المدنية الديمقراطية الدستورية عملية ديناميكية تحمي حقوق مواطنيها وتمنحهم الحريات العامة فردية وجماعية بعيدة عن حالة الطوارئ والشخصية الأسطورية, أو الحزب الأوحد أو الفئة أو الجماعة المسيطرة. وتنظم الحياة طبقا للدستور الذي يقره الشعب ليعبر عن شخصيته وكرامته. وفي ذات الوقت نجد أن فرض سلطة القانون في تحقيق الدولة المدنية غاية في الأهمية بل السياج الواقي من أي انحراف, على أن يبدأ تدخله من محاسبة رموز النظام الحالي وكافة كياناته ممن ارتكبوا جرائم في حق الشعب اليمني. وفق محاكمات شفافة وعادلة تسعى إلى الوصول إلى الحق وليس الانتقام. في المرحلة الانتقاليةوالتي من الضروري عليه أن يتجه الجميع فقط بكل طاقاتهم إلى صياغة دستور جديد يضمن إقامة دولة مدنية بشكل دائم وثابت, يضمن فيه الجميع عدم النكوص والعودة مرة ثانية إلى دائرة الظلم والاستبداد والتفرد بالسلطة والثروة. أما القضية الثانية التي على الجميع الانشغال بها خلال الفترة الانتقالية وانجازها، العمل على صياغة قانون انتخابات يضمن لجميع المواطنين حقوق متساوية وكذا لجميع الأحزاب السياسية, ويكفل وصول أعضاء للمجلس من ذوي الخبرة وأصحاب الكفاءات ويعكس نخبوية مؤهلة علميا وثقافيا. وبحيث يضمن النظام الانتخابي حقوق جميع الأصوات. وان إقامة أي انتخابات قبل صياغة دستور جديد وقانون انتخابات جديد سيبعدنا عن تحقيق أهداف ثورة الشباب الشعبية السلمية, بل هو تحايل على الاستحقاق الثوري و إدراج للثورة تحت طائل الأزمة السياسية, والتفاف على الثورة وأهدافها, وخيانة لدماء الشباب من الشهداء والجر حاء. دستورنا المطلوب: نشير إلى بعض مكونات الدولة المدنية التي تنبغي أن يتضمنها الدستور القادم للدولة المدنية: -الشعب مصدر السلطات, والشريعة الإسلامية مصدر التشريع والدولة المدنية يحكمها الدستور الذي يقره الشعب. والدستور ينظم هذه السلطات ولا سلطة فوق الدستور، ولا قرار يقيد حرية المواطن وحقوقه التي يحددها الدستور الدائم سواء كان القرار من مرجعية دينية أو عشائرية أو سياسية أو إجتماعية أو اقتصادية أو ما شابه. -الفصل بين السلطات واستقلال السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية. وبناء جيش وطني بمؤسسة عسكرية وطنية المبادئ, يمنية الانتماء شعبية الولاء, لا تتدخل في العمل السياسي. -سلطات رئيس الدولة ورئيس الوزراء محددة طبقا للدستور, برئيس شرفي حتى لا يتحول إلى ديكتاتوري استبدادي يتحجج بالدستور في شرعيته الاستبدادية, ورئيس وزراء بصلاحيات برلمانية تنفيذية لفترة واحدة تحدد بخمس سنوات فقط, ويحق له تقديم نفسه للترشح لمرة اخرى. دون زيادة عليها حتى وان حصل حزبه على أغلبية البرلمانية في المرة الثالثة من حق الحزب تقديم شخصية اخرى لرئاسة الوزارة للمرحلة الثالثة من نفس الحزب الحاصل على الأغلبية أو من حزب اخر. إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الاستخباراتية والعسكرية بما يحد من عملية تدخلها في منح صكوك الغفران وحق المواطنة لأبناء الوطن الواحد ومنح بعض الأفراد صلاحيات الاستخدام دون البعض. ووقف التدخل في تسيير الشئون الداخلية والسياسية أو الحد من حقوق الإنسان والمواطنة المتساوية لجميع أفراد المجتمع. بحيث يصبح دورها مقصورا على مكافحة الإرهاب والاستعداء الخارجي للدولة والوطن والشعب اليمني, ومكافحة التجسس والأمن الاقتصادي ....الخ. - حرية الصحافة والأحزاب والنقابات والجمعيات الرسمية والأهلية وصيانة حقوقها وحريتها في العمل المنظم. -الديمقراطية تقوم علي التعددية السياسية والثقافية، وهذا يتطلب تعميق مفهوم الوحدة الوطنية ووضع الخطط اللازمة بتحقيقها على أساس الانتماء للوطن والولاء للشعب اليمني وليس لغيره. -تنظيمات سياسية تمارس عملها السياسي طبقا للدستور الذي يقره الشعب وليس طبقا لقوانين السلطان الذي فرض نفسه على الشعب عن طريق القوة أو العقلية العشائرية أو الوراثية أو المذهبية. وتعميم ثقافة عامة للقبول بالأخر, ضمن برنامج تفكيك ثقافة الاستبداد. نظام الإدارة الداخلية نجد من الأنسب أن تدار اليمن داخليا وفق نظام المخاليف أو الولايات وتحدد عددها وشكلها.... الخ وفقا لعوامل ديموجرافية وجغرافية في الدستور والقانون الخاص بما يضمن وحدة اليمن الجغرافية والبشرية والحد من أي نزعات تعصبية. -الحكم للشعب والسلطة للقانون عبر مؤسساته الديمقراطية المنتخبة انتخابا حرا وديمقراطيا مباشرا من سياسية وعسكرية وأمنية والحد من مراكز الضغط الاستبدادي التي تنسف دَور المؤسسات المدنية بموجب الدستور الذي يقره الشعب من التحكم بمصير الشعب بكافة فئاته مع إيقاف أي تدخل يقيد من حرية الشعب وممارساته الديمقراطية الحرة. -الاعتراف بحقوق الموطنة المتساوية لكافة قطاعات الشعب وفئاته وشرائحه المختلفة، وضمان ممارستها بشكل لا تشعر أحد فيها بالغبن والاضطهاد. -حقوق الإنسان العمود الفقري للحرية والديمقراطية والمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وصيانة هذه الحقوق قانونيا، وضمان حقوق الأسرة والأمومة والطفولة وحمايتها ومعاقبة الذين يعتدون على المرأة والطفل أو يقف ضد حقوق الإنسان بأي صورة من الصور. المرجعية في الدولة المدنية: فالدولة المدنية يجب الاتفاق عليها وعلى مرجعيتها من خلال عمليات التوافق الاجتماعي، والنخب والتيارات المختلفة، والمتمثل في نصوص الدستور المقر بالاستفتاء العام والمباشر. وهنا لا ينبغي لطرف أن يدعي لنفسه حق الاختيار نيابة عن المجتمع، ولا ينبغي لطرف أن يفرض الوصاية علي الأطراف الأخري، أو يفرض الوصاية علي المجتمع. فالدولة المدنية لا تقوم إلا في مجتمع يغلب عليه الطابع المدني، والمجتمع هو صاحب الحق في اختيار المرجعية المتمثلة في مجلس النواب. وحتى لا يصبح الدستور مجرد نص يحق لأي حاكم (فرد أو جماعة) العبث به كيفما يريد .. نجد من الضروري تقييد عملية التغيير أو تعديل كل أو بعض مواد الدستور المصاغ في الفترة القادمة خلال مدة زمنية لا تقل عن عشرون سنة (مثلا), على أن يكون لعدد محدد من المواد, حتى لا يصبح عرضة للأهواء الخاصة لفرد أو لجماعة. وان كنا نجد في شباب الثورة المرجعية الحقيقية والضمان الأكيد في الحفاظ على الأهداف الثورية, وفي ساحاتهم الضمان الأكيد في مراقبة عدم الانحراف المستقبلي عن أهداف ومبادئ الثورة ومعايير الدولة المدنية المتوافق عليها ........ نسأل الله التوفيق,, د/ عبد الله مُعمَّر الحكيمي أستاذ علم الاجتماع كلية الآداب جامعة صنعاء منار للدراسات الاجتماعية وحقوق الإنسان ساحة التغيير صنعاء