في الثاني من نوفمبر، تتجدد ذكرى وعد بلفور، الذي صدر عام 1917 كوعد منح "ممن لا يملك لمن لا يستحق"، لتؤكد الحقائق التاريخية أن هذا التصريح البريطاني لم يكن مجرد وثيقة تاريخية عابرة، بل هو الجريمة التأسيسية التي ما زالت تُرسم تداعياتها بالدم على امتداد قرن كامل. فبينما كان الوعد أساساً لإقصاء الأغلبية الفلسطينية من حقوقها السياسية تحت ستار "الحقوق المدنية والدينية"، باتت المقاومة اليوم هي الخيار الوجودي الوحيد لإزالة هذا الإرث الظالم. يحيى الربيعي منذ لحظة الوعد حتى مطلع عام 2025، قدّم الشعب الفلسطيني ما يزيد عن 150 ألف شهيد، وخاض نحو مليون فلسطيني تجربة الاعتقال المنهجي. وفي أوج هذه الجريمة الممتدة، وتحديداً في حرب الإبادة الجماعية الجارية في غزة، ارتفعت حصيلة العدوان إلى أكثر من 68,865 شهيدا و170,670 إصابة وآلاف المفقودين، مما يعني أن نحو 7% من سكان القطاع باتوا بين شهيد ومفقود وجريح. لقد كان هذا العنف المنهجي ميسّراً بشكل كامل عبر غطاء دولي متواطئ: فكما نجحت بريطانيا في تحويل الوعد إلى "وثيقة دولية" ملزمة عبر صك الانتداب عام 1922، تواصل اليوم الولاياتالمتحدة وحلفاؤها هذه الشراكة الإجرامية. فمنذ أكتوبر 2023، قدمت واشنطن دعماً عسكرياً تجاوز 21.9 مليار دولار، باستخدام سلطة الطوارئ لضمان تدفق 15 ألف قنبلة و57 ألف قذيفة مدفعية إلى تل أبيب. هذا الدعم يمثل امتداداً مادياً للأسس الإجرامية لوعد بلفور. إن هذا التواطؤ، الذي ميّع الموقف الدولي تجاه الحق الفلسطيني، قد كشف نفاق المنظومة الدولية وزيف القيم الليبرالية التي تتغنى بها القوى الغربية، وهي منظومة ما زالت خاضعة للهيمنة الصهيونية الأمريكية. وعليه، تؤكد حركات المقاومة الفلسطينية أن مشاريع التهجير القسري لن تنجح في تصفية القضية، وأن المقاومة هي القوة الوحيدة القادرة على فرض إيقاعها على المشهد العام للقضية، وهي الطريق الحتمي لاسترداد كل الحقوق والأرض، وإلغاء الآثار المترتبة على الوعد المشؤوم بالكامل. ولادة المأساة تحت ستار دبلوماسي بدأت مأساة القرن الفلسطيني في لحظة دبلوماسية قصيرة ومكثفة، عندما وجه وزير الخارجية البريطاني، آرثر جيمس بلفور، رسالة إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا، بتاريخ الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917، تتضمن إعلاناً بخصوص إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. لقد كان هذا الوعد، الذي وافق عليه مجلس الوزراء البريطاني، بمثابة نقطة تحول كارثية، حيث يوصف بأنه "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"، وهو وصف بلاغي عميق يكشف عن الغياب التام للشرعية الأخلاقية والقانونية التي قامت عليها هذه الجريمة المؤسسة. لم يكن هذا التصريح وليد الصدفة، بل جاء ضمن رؤية استراتيجية واضحة تستهدف خدمة المصالح البريطانية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بهدف توثيق العهود التي تخدم استراتيجيتها الاستعمارية. كانت الخدعة القانونية متأصلة منذ البداية، حيث نص الوعد وصك الانتداب لاحقاً على عدم المساس بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية القائمة في فلسطين. لكن في المقابل، تم منح وضع سياسي خاص ومميز للأقلية اليهودية لإقامة ما يسمي ب"وطن قومي". هذا التناقض الجوهري لم يجرد الأغلبية الفلسطينية الأصلية من حقها السياسي الأصيل في تقرير مصير أرضها فحسب، بل حصر حقوقها في الجوانب المدنية والدينية فقط، مما شكل الغطاء الزائف لعملية الإقصاء اللاحقة. من تصريح فردي إلى صك دولي إن إحدى الركائز الأساسية في مواقف حركات المقاومة والجهاد الفلسطينية هي تحميل بريطانيا والغرب المسؤولية الكاملة عن المأساة الممتدة. وتتجسد هذه المسؤولية في نجاح بريطانيا بتحويل الوعد الفردي إلى التزام دولي ملزم. بدأت عملية تثبيت الوعد الدولية بالاعتراف به في مؤتمر سان ريمو (1920)، حيث صادقت قوى الحلفاء على ما تقدمت به بريطانيا من زعم ب"مبدأ الوطن القومي اليهودي". لكن الأثر الأكبر والتحول الدرامي جاء في عام 1922، عندما أُدرج الوعد صراحة ضمن صك الانتداب البريطاني على فلسطين. هذا الإدراج نقل وعد بلفور من مجرد رسالة إلى "وثيقة دولية" ملزمة ضمن إطار عصبة الأمم. نص الصك بوضوح على أن السلطة المنتدبة (بريطانيا) مسؤولة عن "تنفيذ الإعلان... لصالح إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين". هذا التدويل عبر عصبة الأمم رفع مستوى الجريمة إلى تواطؤ مؤسساتي متعدد الأطراف، وهو ما يفسر منطق حركات المقاومة والجهاد الفلسطينية في اتهام "القوى الإرهابية الكبرى في العالم" بأنها أسست الكيان، خاصة وأن هذا التواطؤ يثبت أن المشروع الصهيوني لم يولد من فراغ، وإنما تم فرضه بقرار دولي مهندس لخدمة مصالح القوى العظمى، ما يعكس فشلاً بنيوياً في حماية حقوق الشعوب الأصلية. الدعم البريطاني: وعد بلفور (1917 - 1922) لم يقتصر دور بريطانيا على منح الغطاء القانوني، بل تُرجمت مسؤوليتها تحويل مزاعم "إقامة الوطن القومي" إلى دعم مادي وعسكري مباشر للعصابات الصهيونية، تنفيذاً للأسس الإجرامية للوعد التي تهدف إلى "ابادة الشعب الفلسطيني وقتلهم وطرد من تبقى منهم خارج فلسطين". وتكشف الوثائق التاريخية أن بريطانيا دعمت تشكيل اللواء اليهودي ضمن قواتها، حيث تلقى خمسة آلاف رجل تدريباً مكثفاً في مصر وإيطاليا. هذا الدعم العسكري واللوجستي المبكر يمثل الخلفية الأساسية لتصرفات الكيان الإجرامية اليوم. فبعد حل اللواء اليهودي، عاد ضباطه وجنوده ليشكلوا جزءاً هاماً ومؤسساً ل "الهاغاناه وغيرها من المنظمات الصهيونية العسكرية الإرهابية". وهو ما يثبت حقيقة أن الأساس العسكري للكيان ولد برعاية بريطانية كاملة، ما يعزز وصف حركات المقاومة والجهاد الفلسطينية لجرائم اليوم بأنها "نازية". فالدعم البريطاني المباشر مكّن هذه العصابات من تنفيذ خطط التهجير والقتل التي كانت جزءاً من الإطار المؤسس، مؤكداً أن الدعم الغربي لم يكن مجرد غض طرف، بل مساهمة فعالة ومباشرة في تأسيس آلة العنف المنظمة. العهد الأمريكي للدعم اللامحدود وتأمين الإبادة (2023 - 2025) الدعم اللامحدود الذي تقدمه الإدارة الأمريكية وحلفاؤها للكيان الصهيوني في عدوانه المتواصل على غزة، هو "امتداد للجريمة التي ارتكبتها القوى الإرهابية الكبرى في العالم قبل أكثر من قرن". هذا الامتداد يتجلى في الحجم غير المسبوق للدعم العسكري الذي تجاوز كل التوقعات بعد السابع من أكتوبر 2023. لقد كشفت البيانات عن حجم كارثي في الدعم اللوجستي، حيث تجاوزت حزمة المساعدات الإجمالية حوالي 21.9 مليار دولار منذ أكتوبر 2023. وقد وصل هذا الدعم إلى تل أبيب في صورة كميات هائلة من الأسلحة، بما في ذلك 15,000 قنبلة و57,000 قذيفة مدفعية من عيار 155 ملم، بالإضافة إلى آلاف القنابل الموجهة وغير الموجهة. الأدهى من ذلك، أن الإدارة الأمريكية، في استعراض لقوة الدعم غير المحدود، استخدمت سلطة الطوارئ مرتين لتجاوز مراجعة الكونغرس وتسريع إرسال الأسلحة. هذا الإجراء يكشف عن إرادة سياسية عليا لضمان استمرارية العدوان دون توقف أو تأخير، مما يمثل تحولاً نوعياً في العلاقة من مجرد حليف داعم سياسياً إلى شريك عسكري فاعل ومباشر في تنفيذ العمليات. يمثل هذا الدعم الحالي، بشموله وسرعته، نسخة محدثة وأكثر فتكاً من الدعم البريطاني في زمن الانتداب، ويضمن استمرارية "جرائم الإبادة الجماعية في غزة". استنساخ النكبة عبر القوة إن الجريمة المؤسسة لوعد بلفور تقوم على مبدأ إبادة الشعب الفلسطيني وطرده. وتؤكد فصول الاجرام الصهيوني على مدى قرابة قرن، أن محاولات التهجير القسري التي تقودها حكومة الاحتلال اليوم، خاصة لسكان غزة، هي تجسيد للهدف القديم الذي يسعى له الصهاينة وحلفاؤهم. إذا كان الهدف من الوعد هو إنشاء ما يسمى ب"وطن قومي حصري"، فإن الوجود الفلسطيني المستقر يهدد هذا الهدف، ولذلك فإن التهجير ليس مجرد نتيجة للعمليات العسكرية، بل هو هدف استراتيجي يخدم الفكرة التأسيسية لوعد بلفور. في مواجهة هذا الهدف الإحلالي، يبرز الدور المحوري للشعب الفلسطيني في التصدي لمحاولات شطب قضيته وإنهاء الصراع عبر مشاريع "التهجير والوطن البديل". المقاومة في هذا السياق هي عمل وجودي؛ حيث إن الصمود في غزة، والجهد الكفاحي في الضفة والقدس، يمثل رفضاً مطلقاً للتخلي عن الحقوق. ولذلك، تشدد الحركة على أن "مشاريع التهجير التي تقودها حكومة الإجرام الصهيونية، لن تنجح في تصفية قضية فلسطين ومقاومتها الحرة". الصراع اليوم يدور بشكل أساسي حول حق الوجود، والمقاومة تعمل كحاجز حيوي ضد تحقيق الهدف النهائي لمهندسي وعد بلفور القدامى. سردية الإجرام والتمدد الاستيطاني (1917 - 2025) منذ اللحظة التي صدر فيها وعد بلفور في نوفمبر 1917، بدأت الآلة الاستعمارية في تفعيل جريمة التطهير العرقي والاستيلاء على الأرض، وهي عملية لا يمكن وصفها إلا بسردية الأرقام الدامية. هذه الأرقام هي شواهد دامغة على الفشل الغربي في حماية الحقوق الفلسطينية مقابل التعهد بإنشاء وطن للغاصبين. يكمن جوهر المشروع الإحلالي في السيطرة على الأرض، وقد تحول هذا الوعد المشؤوم إلى عملية مصادرة منهجية لمساحات شاسعة من فلسطين التاريخية. في عام 1948، ومع قيام الكيان، لم تقتصر الجريمة على طرد وتهجير الأهل، بل تحققت السيطرة على ما نسبته 78% من أراضي فلسطين، متجاوزة بكثير ما كان مخصصاً للدولة العبرية في قرار التقسيم عام 1947..هذا التمدد الاستيطاني لم يتوقف عند حدود 1948، بل استمر كنهر جارف من التوسع في الضفة الغربيةوالقدسالمحتلة. ومنذ عام 1967 وحتى اليوم، تحولت الضفة الغربية، التي تبلغ مساحتها حوالي 5,860 كيلومتراً مربعاً، إلى فسيفساء من الكيانات الاستيطانية المعزولة.. يكشف سجل التوسع الاستيطاني أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية (باستثناء القدس الموسعة) قد ارتفع بشكل صارخ، فبعد أن كان يقدر بحوالي 122,320 مستوطناً في عام 1993، قفز هذا الرقم إلى 456,169 مستوطناً بحلول عام 2019. أما في القدس، فقد تضاعف الوجود الاستيطاني ليبلغ 232,093 مستوطناً في عام 2019. إن هذه الأرقام تمثل جوهر عملية الإحلال التي أسس لها وعد بلفور: تحويل الأغلبية إلى أقلية مهيمن عليها، وتقسيم الأرض السليبة إلى كيانات متناثرة. إن الثمن البشري لجريمة بلفور الممتدة هو سجل تاريخي من الدماء والتضحيات. تشير التقديرات إلى أن الشعب الفلسطيني قدّم منذ نكبة عام 1948 وحتى مطلع عام 2025 أكثر من 150 ألف شهيد، أو ما يزيد عن 134 ألفاً وفق إحصاء حكومي آخر. وتتركز فصول هذه التضحية في محطات تاريخية مؤلمة، بدأت بنكبة (1948)، والتي قُدّم فيها الشعب الفلسطيني نحو 15 ألف شهيد. تلتها نكسة (1967)، وسقط خلالها ما بين 15 و25 ألف شهيد فلسطيني وعربي. وفي انتفاضة الأقصى (2000-2004)، ارتفعت حصيلة الشهداء إلى 4460 شهيداً. ويُضاف إلى هذه الجرائم الإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة، التي تمثل الذروة المأساوية للوعد المشؤوم. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، وحتى 2 نوفمبر 2025م، ارتفعت حصيلة العدوان الصهيوني على قطاع غزة إلى 68,865 شهيدا و170,670 إصابة، في وقت لا تزال فرق الإنقاذ تواصل أعمال البحث وانتشال الضحايا من تحت الركام. ومنذ وقف إطلاق النار في 11 أكتوبر 2025، تم تسجيل 236 شهيدا و600 إصابة، إلى جانب 502 جثمان تم انتشالها من مواقع مختلفة في القطاع. ولا تكتمل سردية الإجرام دون الإشارة إلى حرب الاعتقال المنهجية، حيث خاض نحو مليون فلسطيني تجربة الاعتقال منذ النكبة، في سياسة تهدف إلى كسر الإرادة وتصفية القيادات. تمييع الموقف الدولي وتجاهل الحقوق لم يكن التمدد الإجرامي على الأرض ممكناً لولا الغطاء السياسي الذي وفّرته بريطانيا أولاً، ثم الولاياتالمتحدة لاحقاً، في عملية منهجية ل "تمييع الموقف الدولي" لصالح أهداف الاحتلال الإسرائيلي. لقد نجحت بريطانيا في مرحلة التأسيس (1917-1922) في تحويل رسالة بلفور الفردية إلى وثيقة دولية ملزمة ضمن صك الانتداب، مما أرسى الأساس للجريمة. ومع انتقال الهيمنة إلى الولاياتالمتحدة، تحوّل التواطؤ إلى شراكة عسكرية مباشرة ومكثفة، كما اتضح من حزمة المساعدات التي بلغت 21.9 مليار دولار بعد أكتوبر 2023..هذا الدعم المادي والعسكري اللامحدود، المتمثل في تسريع إرسال آلاف القنابل والقذائف عبر سلطة الطوارئ، يمثل الجانب المظلم من القيم الليبرالية الغربية. في المقابل، يجد الفلسطينيون حقوقهم في الأرض والسيادة تتجاهل بشكل ممنهج، حيث يظل صمت وعجز المؤسسات الدولية أمام الفظائع في غزة "وصمة عار على جبين الإنسانية"، مما يكشف خضوع هذه المنظومة للهيمنة الصهيونية الأمريكية. نفاق العالم وزيف القيم الليبرالية تنتقل سردية الحكاية في تحليلها إلى الساحة الدولية، حيث تعلن بوضوح أن صمت وعجز المؤسسات الدولية عن جرائم الاحتلال "يكشف نفاق العالم وزيف القيم الليبرالية وشعارات حقوق الإنسان التي نادى بها الغرب". هذا الانتقاد يجد صداه في تقارير دولية تؤكد أن صمت المجتمع الدولي إزاء الفظائع في غزة هو "وصمة عار على جبين الإنسانية". .إن الفشل الحالي للأمم المتحدة هو استمرارية لانهيار بنيوي يعود تاريخه إلى عام 1922، عندما تبنت عصبة الأمم الوعد المشؤوم. المنظومة الدولية، التي كان من المفترض أن تمثل قيم العدالة، تراجعت فعاليتها بشكل كبير، حيث تشير التقارير إلى تزايد الشعور ب "العجز واللامبالاه". الأزمة الحالية، بما فيها المطالبات بالمحاكمة بتهمة التواطؤ في جرائم حرب الابادة، تؤكد أن المنظومة الدولية ما زالت "خاضعة للهيمنة الصهيوني الأمريكية وتتماهى مع مصالحهم على حساب شعوب العالم المظلومة". هذا الخضوع يفسر كيف يتحول القانون الدولي إلى أداة انتقائية تخدم مصالح الهيمنة، مما يؤدي إلى تآكل عميق في مصداقية النظام العالمي. القيم الليبرالية والاستثمار في العنف التناقض الدراماتيكي يتمثل في أن الدول التي تتغنى بالقيم الليبرالية وحقوق الإنسان هي ذاتها التي تمول وتزود آلة عسكرية تُمارس الإبادة الجماعية. هذا لم يعد نفاقاً يتعلق بالصمت فحسب، بل بالتواطؤ الفعلي والمادي في الجريمة. ففي حين كانت بريطانيا القوة المنتدبة التي زرعت البذور، فإن الولاياتالمتحدة اليوم هي "الشريك العسكري المباشر" الذي يغذي الآلة الحربية بلا قيود. هذا التحول في الدور الغربي، من الوصاية إلى الشراكة العسكرية النشطة، يعني رفع مستوى المسؤولية. وتكشف الأرقام عن التكلفة الإنسانية المباشرة لهذا التناقض: عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى في الحرب الحالية يمثلون الأثر المادي المباشر للدعم العسكري الهائل الذي قدمته واشنطن لضمان استمرار العدوان. هذا الانتقال من الوصاية إلى الشراكة المادية يعزز الحاجة الماسة لتحقيق العدالة الفورية. المقاومة كفعل وجودي وضرورة تاريخية لإلغاء الوعد تقدم حركة المجاهدين، في بيان لها بالذكرى ال108 لوعد بلفور المشؤوم، المقاومة على أنها الحل الجذري والوحيد، مؤكدة أنها هي الطريق "لإزالة وعد بلفور المشؤوم وكافة الوعود والمعاهدات الظالمة". بهذا، تضع الحركة المقاومة في سياق المواجهة مع الأساس القانوني التاريخي الذي كرسه صك الانتداب. المقاومة ليست مجرد رد فعل، بل هي "المسيرة الكفاحية" التي رفضت مطلقاً التخلي عن الحقوق وحافظت على حيوية القضية الفلسطينية. الصمود بكل أشكاله (في غزة والضفة والقدس) هو تجسيد لرفض مشاريع التصفية والتهجير القسري. لقد أعلنت الحركة أن "فلسطين كلها أرضنا ولن نتخلى عن شبر منها". هذا التأكيد الرافض يرفض بشكل قاطع أي حلول قائمة على التقسيم، مثل حل الدولتين الذي دعت له بعض المؤسسات الدولية. هذا يعني أن المقاومة تتبنى رؤية جيوسياسية مضادة تسعى لإلغاء النتائج المترتبة على وعد 1917 بالكامل، وليس فقط على احتلال عام 1967. إن المقاومة تُقدم نفسها كحل جذري، لا تفاوضي، يهدف إلى استرداد كل الحقوق والأرض، ويضع الصراع في إطاره الوجودي الشامل. وتصل الحركة إلى خلاصتها العملية بالدعوة إلى "تصعيد المقاومة والمواجهة". إن توصيف المشروع الصهيوني بأنه "مشروع إحلالي" يربط العنف الحالي بكونه خطة منهجية لإبدال شعب بآخر، وهي الفكرة التي تأسست عليها وثيقة وعد بلفور. بما أن المشروع الصهيوني يتمتع بدعم مادي ولوجستي غير مسبوق من الغرب، فإن إيقاف هذا المشروع يتطلب قوة مضادة موازية لا يمكن كسر إرادتها. المقاومة في هذا السياق تعمل كنظام لإعادة التوازن؛ فهي القوة الوحيدة القادرة على فرض إيقاعها على المشهد العام للقضية بعيداً عن الهيمنة الدولية المتواطئة. الدعوة للتصعيد هي اعتراف ضمني بأن الدبلوماسية الدولية فشلت تاريخياً في إلغاء تداعيات الوعد المشؤوم، مما يجعل المقاومة الخيار الحتمي لإجبار المشروع الإحلالي على التوقف وانتزاع كل الحقوق. إرادة شعب تنتصر من رسالة بلفور القصيرة عام 1917 إلى وابل القنابل الموجهة وغير الموجهة التي تتدفق على غزة عام 2024، تتأكد حقيقة أن المأساة الفلسطينية هي حلقة متصلة من الجريمة المؤسسة والدعم الغربي المستمر. لقد كان الفشل الدولي الأول هيكلياً عندما تبنت عصبة الأمم الوعد المشؤوم، ويظل الفشل الحالي ناتجاً عن الخضوع للهيمنة الأمريكية الصهيونية. .إن جوهر القضية، كما تؤكده حركة المجاهدين، هو أن المقاومة هي الوسيلة لإلغاء الآثار القانونية والجيوسياسية لوعد بلفور، ورفض فكرة أن من لا يملك الحق يمكن أن يمنح أرضنا لمن لا يستحق. المقاومة هي معركة إرادة وتجذر ضد مشروع الإحلال، وهي الطريق الوحيد لاسترداد الأرض كاملة و"انتزاع كل الحقوق".