مع التحسن النسبي في المؤشرات الاقتصادية وثبات الموقف السياسي لقضية الجنوب على المستوى الإقليمي والدولي، تبرز ضرورة ملحّة لا تقل أهمية عن النضال السياسي والعسكري، وهي: تطبيع الحياة اليومية للناس، واستعادة دورة الاقتصاد الطبيعي، بما يضمن كرامة العيش وشفافية السوق وعدالة الفرص. لقد آن الأوان للجنوبيين أن يواصلوا كفاحهم في جبهة أخرى لا تقل خطورة عن جبهات النضال السياسي، وهي جبهة كسر الاحتكار الاقتصادي. فالعديد من الأزمات التي تثقل كاهل المواطن – من اختناقات في الوقود إلى اضطراب في سلاسل الإمداد والسلع – ليست نتيجة طبيعية للحرب أو الحصار فقط، بل تعود جذورها إلى احتكار تجاري منظم، يتحكّم بالسوق ويوظّف شبكات النفوذ لتعطيل الإصلاح.
إن فتح السوق الجنوبي أمام رؤوس الأموال الوطنية في المهجر يجب أن يتحول إلى سياسة واضحة، لا مجرد دعوات. هناك الآلاف من رجال الأعمال الجنوبيين المنتشرين من كوالالمبور إلى القاهرة، ومن الرياض إلى لندن، وحتى أبوظبي ونيويورك، يملكون الخبرة والقدرة والاستعداد، لكنهم يُواجهون بجدار من البيروقراطية والنفوذ المرتبط بمراكز احتكار فاسدة، لا تريد أي منافس نزيه.
ما يتم كشفه من تقارير اقتصادية، وشهادات رجال الأعمال، وواقع السوق ذاته، يؤكد أن الفساد لم يعد ماليًا فقط، بل أصبح أداة سياسية لإبقاء الوضع الراهن هشًا ومختنقًا. وهذا يتطلب من الجنوبيين أن يربطوا بين تحرير الأرض وتحرير السوق، وأن لا يكتفوا بشعارات التحرير بينما تظل مافيات الاحتكار تتحكم بحياة الناس.
إن تطبيع الحياة في الجنوب لا يعني فقط تحسين الكهرباء والمياه، بل يشمل أيضًا بناء بيئة اقتصادية مفتوحة، تحكمها قوانين الشفافية والمنافسة، وتكسر منظومة الامتيازات التي ترسّخت خلال سنوات الحرب. وهذه مهمة نضالية تتطلب من المؤسسات، والمجتمع المدني، والإعلام، أن يتعاملوا مع الفساد والاحتكار بوصفهما وجهين لعملة واحدة: تعويق المشروع الجنوبي.
إن المرحلة تتطلب جبهة جنوبية اقتصادية، كما كانت هناك جبهة عسكرية، تتبنى فتح السوق وتشجيع الاستثمار، وتعيد ثقة المهاجر الجنوبي بوطنه، وترسل رسالة للعالم بأن الجنوب قادر على إدارة نفسه، لا بالولاء، بل بالكفاءة والانفتاح.
فكما لا مكان للميليشيات في مشروع الدولة، لا مكان أيضًا للاحتكارات في مشروع الاقتصاد